05 ديسمبر 2025

لم يكن الخطاب الأخير للمبعوثة الأممية إلى ليبيا، هانا تيتيه، أمام مجلس الأمن محطة عادية، فحمل معه رمزية الواقع الليبي الغارق في دوامة المراحل الانتقالية؛ عبر حكومات مؤقتة تتناوب على السلطة بلا شرعية، ومجتمع دولي يكرر وصفاته الفاشلة.

كان من المفترض أن يفتح خطاب تيتيه أفقا جديدا، لكنه جاء وفق سياق يحمل معه كل ما تم طرحه سابقا من “خارطة طريق” بثلاث ركائز تضمن إصلاح الإطار الانتخابي، وتشكيل حكومة موحدة، وإطلاق حوار شامل، ضمن جدول زمني فضفاض يمتد بين 12 و18 شهرا.

هذه المقاربة التي قدمتها تيته تفتقر إلى الجرأة، وتبدو كأنها صُممت لتلبية حاجة البعثة الأممية لإظهار أنها ما زالت فاعلة، وليس لتلبية حاجة الليبيين إلى حل حقيقي، وتأثيرها على الداخل الليبي لم يكن سوى خيبة جديدة، عززها إدراك عام بأن الأمم المتحدة ما زالت أسيرة سياسة “تبريد” الأزمة بدل اقتلاع جذورها، وأن ما طُرح ليس إلا أرضية تعتمد على كلمات تسعى لخلق توافق عابر وليس مسارا سياسيا يخترق الجدار الصلب للأزمة الليبية.

جاء الرد على هذه الخطة عنيفا عبر قذيفة استهدفت مقر البعثة الأممية في جنزور بعد ساعات قليلة من خطاب تيتيه، فالأمم المتحدة تطرح خارطة طريق بالكلمات، والشارع الليبي يرد عليها بالبارود، في دلالة متناقضة على حجم الفراغ بين الرؤى الأممية والواقع الأمني والسياسي في ليبيا.

خطاب يرضي الجميع… ولا يقنع أحداً

استطاع خطاب تيتيه التأثير على جميع الأطراف الليبية، ولكن كلٌّ بحسب زاويته، من دون أن يغيّر أيٌّ منهم موقعه في المشهد السياسي، فعبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة منتهية الولاية، رأى في التركيز على القوانين الانتخابية ما يعزز موقفه الرافض لأي مسار سياسي جديد، فرفض بالمطلق فكرة تشكيل حكومة بديلة، متمسكا بشرعيته الحالية.

في المقابل، تمسك رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، بضرورة الإسراع في تشكيل حكومة موحدة بديلة لحكومة الدبيبة، وهو الموقف ذاته الذي يتبناه أسامة حماد، رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان، حيث أبدى كلاهما استعدادا لتسليم الصلاحيات إلى حكومة توافقية جديدة متى تم التوافق عليها.

أما محمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي، فأعاد إلى الواجهة مقترح إجراء استفتاء حول التشريعات الانتخابية، كما حاول العام الماضي، وهو طرح من شأنه أن ينسف عمليا كل الجداول الزمنية التي أعلنتها بعثة الأمم المتحدة، ما يضيف مزيدا من التعقيد إلى المشهد السياسي المتأزم أصلا.

خصوم الدبيبة قرأوا في كلام تيتيه “عداً تنازلياً لشهرين” حتى مغادرته السلطة، وهو ما عبر عنه تصريح الناشط حسن الصغير الذي اعتبر أن القذيفة في جنزور لم تكن سوى إشارة على بداية مقاومة هذا التغيير المحتمل، وبهذا الشكل تحولت خارطة الطريق إلى مرآة لكل طرف يرى فيها ما يريد، دون التزام جدي بالمسار المقترح.

هذا التناقض يعكس جوهر الأزمة، فالانقسام الليبي ليس حول المبادئ العامة لأن الكل يرفع شعار الانتخابات وتوحيد المؤسسات، بل حول تفاصيل السلطة ومن يتولاها، وخارطة تيتيه لم تقترب من هذه النقطة واكتفت بإعادة إنتاج لغة “المراحل المتسلسلة” التي سمعها الليبيون كثيرا منذ 2011.

الضعف البنيوي للخطة

من الناحية الشكلية، قدمت تيتيه خطة يمكن تلخيصها بثلاثة محاور؛ تبدأ بإصلاح الإطار الانتخابي وتعديل القوانين خلال شهرين، ثم تشكيل حكومة موحدة جديدة بعد ذلك مباشرة، وأخيرا حوار تشارك فيه مختلف المكونات الليبية.

لكن هذه الخطوات الثلاث تعاني من ثلاث ثغرات قاتلة، فهناك غياب الضمانات السياسية، فالتجربة الليبية أثبتت أن تعديل القوانين أو تشكيل الحكومات لن يتم بمعزل عن صفقات معقدة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، أي بين المركزين السياسيين الأساسيين، والاعتماد على حسن النوايا لإجراء انتخابات خلال 18 شهراً يبدو وهماً.

الأمر الثاني أن التوقيت غير واقعي، فتحديد سقف شهرين لتعديل القوانين وتشكيل مفوضية جديدة أمر أشبه بالخيال، وذلك في ظل تاريخ طويل من التعطيل المتبادل والطعون القانونية، فضلاً عن الانقسامات الأمنية التي تمنع مجرد الاتفاق على مكان عقد جلسة مشتركة.

أخيرا يأتي إهمال البعد الأمني الحقيقي، فـ”تيتيه” تحدثت عن “تهيئة بيئة مواتية” لكنها لم تقترب من جوهر المشكلة التي تتجلى بوجود ميليشيات مسلحة متحكمة بالقرار الأمني والسياسي، واستمرار النفوذ الخارجي في تغذية الانقسام، فما قيمة أي إطار انتخابي دون معالجة هذا التوازن المختل على الأرض؟

القذيفة كتعليق سياسي

اللافت أن رد الفعل الأكثر تعبيرا على خطاب تيتيه لم يأت من قاعة مجلس الأمن، ولا من بيانات القادة الليبيين، بل من قذيفة أطلقت باتجاه مقر البعثة في جنزور لم تسفر عن ضحايا، لكنها أصابت رمزية البعثة الأممية، فكانت بمثابة “تعليق سياسي” بلسان السلاح؛ فالبعثة غير قادرة على حماية نفسها، فكيف ستضمن مسارا انتخابيا في بلد متخم بالسلاح والفوضى؟

المفارقة أن رد البعثة جاء بنفس القدر من الرمزية واللافعالية عبر بيانات إدانة، وتأكيد على الالتزام، ودعوة للتحقيق، فهناك تشابه بين ضعف المبادرة الأممية وضعف الرد على استهدافها، وكأن الطرفين، البعثة ومن استهدفها، يتبادلان رسالة واحدة مفادها أن لا قدرة على فرض أي مسار فعلي.

المواقف الدولية: دعم مشروط وتحفظ روسي

المجتمع الدولي، كعادته، أبدى دعما لفظيا للخطة، ففرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تحدثت عن “ضرورة توحيد المؤسسات”، فيما ركزت واشنطن على أهمية “ميزانية موحدة” و”تكامل عسكري”، ودعت لندن إلى انتخابات عاجلة، أما روسيا فوضعت إصبعها على الجرح محذرة من”جداول زمنية مصطنعة” ومن استغلال خارجي للموارد المالية الليبية.

هذا الانقسام يعكس حدود التوافق الدولي، فالجميع متفق على إجراء الانتخابات، لكن لا أحد يريد أن يخسر نفوذه في ليبيا، لذلك ستظل كل خطة أممية حبيسة التوازنات الدولية قبل أن تكون أسيرة الانقسامات الليبية.

الداخل الليبي: ترحيب مشروط ومخاوف دفينة

في الداخل، رحب المجلس الاجتماعي بسوق الجمعة والنواحي الأربعة، كأكبر كيان أهلي، بخطة تيتيه، لكنه وضع شرطا واضحا؛ تشكيل حكومة جديدة خلال شهرين، وإلا فالحكومة الحالية فاقدة للشرعية، وهذا الموقف يترجم رفضا ضمنياً لاستمرار الدبيبة، ويعكس ضغطا اجتماعياً متزايداً على ضرورة التغيير.

عقيلة صالح بدوره، لم يفوت الفرصة ليجدد شرعية حكومة حماد، فيما ركز المنفي على “إطار زمني ملزم”، أما الدبيبة فحاول الالتفاف بطرحه “الاستعلام الوطني”، في خطوة تعكس محاولة لتأجيل أي انتقال تنفيذي مع التمسك بخطاب شعبي حول القوانين الانتخابية.

أزمة أممية أم أزمة ليبية؟

ما يضعف خارطة تيتيه ليس فقط مضمونها العام، بل أيضا إدراك الليبيين المتزايد بأن البعثة الأممية باتت جزءا من المشكلة، فبعد أكثر من عقد على التدخل الدولي، تكررت التجارب نفسها، فهناك مبعوث جديد، وخطة جديدة، ثم تعثر، فانسداد، فعودة إلى نقطة الصفر، والليبيون لم يعودوا يثقون بالوعود الأممية، بل يرون فيها أداة لتدوير المراحل الانتقالية لا لإنهائها، لذلك فإن الخطة الأخيرة، رغم صياغتها “التقنية”، لم تنجح في تبديد هذا الانطباع، بل عززته.

ما بعد تيتيه: الاحتمالات المفتوحة

هل تمثل خارطة تيتيه بداية لمرحلة جديدة أم مجرد حلقة إضافية في مسلسل المراحل الانتقالية؟
السيناريو الأرجح أنها ستتحول إلى أداة جديدة في لعبة الوقت، فكل طرف سيستخدمها لتبرير موقفه، والدبيبة سيقول إنه ملتزم بالانتخابات لكنه يرفض الإقصاء، وعقيلة سيؤكد أن الشرعية بيد البرلمان وحكومة حماد، والبعثة ستواصل رفع تقاريرها إلى نيويورك عن “التحديات” و”الحوار المهيكل”.

لكن في المقابل، القذيفة في جنزور ليست مجرد حادث أمني، إنما إنذار مبكر بأن أي محاولة لفرض تغيير سياسي من الخارج ستواجه برد فعل عنيف، وإذا لم تتم معالجة جذور الأزمة الأمنية فإن أي خارطة طريق ستظل حبراً على ورق.

خارطة تيتيه لم تخرج عن نمط الخطط الأممية السابقة، فهي حملت مقاربة تقنية لمعضلة سياسية وأمنية بالغة التعقيد، وبدت ضعيفة لأنها حاولت أن ترضي الجميع، ففقدت قدرتها على إقناع أحد، لعل الصورة الأوضح لما يجري ليست في قاعة مجلس الأمن ولا في بيانات الترحيب أو الرفض، بل في تلك اللحظة التي دوّى فيها انفجار القذيفة عند بوابة البعثة في جنزور، فتجسدت الحقيقة القاسية بأن ليبيا لا تزال عالقة بين الكلمات والسلاح، بين أوهام التوافق ورهانات القوة.

بقلم: مازن بلال

الصومال تعيد 171 مواطناً من السجون الليبية

اقرأ المزيد