05 ديسمبر 2025

تظهر في ليبيا مشاهد تلامس السخرية السوداء، أجهزة سيادية رقابية تتصارع علناً، وتتبادل اتهامات بالتقصير، تنخرط في علاقات مالية وسياسية مشبوهة مع رأس الحكومة نفسه، عبدالحميد الدبيبة، والنتيجة جهاز رقابي مشلول، وفساد ناعم يزدهر خلف عنوان “مكافحة الفساد”.

غيبوبة مالية منذ 2007

تبدأ القصة من ملف الحسابات الختامية للدولة، التي لم تُغلق منذ عام 2007، فديوان المحاسبة يُحمّل وزارة المالية والحكومة مسؤولية التأخير، ويتمسك بتفسير قانوني يحدد دوره في مراجعة ما تعده السلطة التنفيذية، أما هيئة الرقابة الإدارية، فتتهم الديوان بالتقاعس عن اتخاذ إجراءات صارمة ضد الجهات المخالفة، وتستشهد بنصوص قانونية تلزمه بالإحالة إلى النيابة أو الهيئة عند اكتشاف المخالفات.

هذا الأمر الذي يبدو في ظاهره تقنياً يخفي وراءه أزمة أعمق، فهناك تداخل في الصلاحيات، وغياب التنسيق، واستغلال الفجوات القانونية والسياسية لتبادل الاتهامات بدلا ًمن محاسبة المقصرين، وفي ظل هذا الشلل للمؤسسات، تتآكل الثقة العامة، وتصبح الرقابة مجرّد أداة في الصراع على النفوذ.

المال العام كورقة ضغط متبادلة

يزداد المشهد قتامة حين تكشف مصادر خاصة أن رئيس هيئة الرقابة الإدارية، عبد الله قادربوه، مارس ضغوطاً مباشرة على رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، لإجباره على صرف 399 مليون دينار من باب التنمية، رغم أن الدبيبة نفسه أصدر في وقت سابق تعليمات بعدم صرف أي مخصصات وفق هذا البند.

واللافت أن الدبيبة استجاب للضغوط، ووجه الجهات المعنية لصرف مبالغ لمشاريع شراء مبان وتجهيز مقرات للهيئة، في سابقة تكشف كيف يمكن للجهاز المفترض أنه رقيب، أن يتحول إلى مستفيد مباشر من المال العام عبر علاقات قوة ونفوذ مع السلطة التنفيذية.

المفارقة أن الأمر لم يتوقف عند هيئة الرقابة الإدارية؛ فالدبيبة خصص أيضا 130 مليون دينار لصالح ديوان المحاسبة، لمشروعات جديدة، وهكذا يصبح المال العام أداة لبناء تحالفات وشراء ولاءات بين الحكومة ومؤسسات يفترض أنها تراقبها.

شراكة مصالح بدل الرقابة

هذه العلاقة الملتبسة بين الحكومة وأجهزة الرقابة لا يمكن قراءتها خارج سياق الانقسام السياسي الليبي، حيث أصبحت المناصب السيادية؛ من ديوان المحاسبة إلى هيئة الرقابة الإدارية ومصرف ليبيا المركزي ، أدوات صراع وتبادل مصالح بين الكتل السياسية.

فبدل أن تكون الرقابة أداة لضبط الأداء الحكومي، تحولت إلى ورقة مساومة، حيث يُكافأ الرقيب بمخصصات ومشاريع، وفي المقابل بغض الطرف عن ملفات حساسة أو بتأجيل إجراءات محاسبة، وهذا النمط من التواطؤ يشكل بيئة مثالية لاستمرار الفساد.

الأحكام القضائية.. ورقة في لعبة النفوذ

في يونيو 2025، أصدرت المحكمة العليا حكما لصالح ديوان المحاسبة في نزاعه مع هيئة الرقابة الإدارية حول أحقية مراجعة العقود، وبدل أن يكون الحكم نهاية للخلاف، تحوّل إلى شرارة لتصعيد جديد، فرئيس الهيئة ضغط على مصرف ليبيا المركزي لعدم تعميم الحكم، واستدعى مسؤولين فيه واحتجز بعضهم، في خطوة وصفت بأنها ضغط مباشر على المحافظ.

وبهذا الشكل أصبحت السلطة القضائية داخل دائرة التسييس، حيث تُستخدم الأحكام كأدوات تفاوض أو عرقلة، بدل أن تكون مرجعاً ملزماً لجميع الأطراف.

ويرى المحللون الماليون والاقتصاديون، كعلي سالم وعادل المقرحي، أن الخلاف بين المؤسستين لا يفسر وحده تأخر إغلاق الحسابات الختامية، بل يكشف عن ضعف بنيوي في منظومة الرقابة نفسها، فتداخل الاختصاصات، وغياب آليات التنسيق، وعدم وضوح القوانين، عوامل تجعل من الرقابة عملية انتقائية، تُستخدم عند الحاجة، وتُعطل عند الضرورة.

المحصلة ظهور بيئة مثالية لازدهار الفساد الإداري والمالي، حيث تصبح الصراعات الداخلية غطاء لإخفاء القصور، بدل أن تكون حافزاً للإصلاح.

من استثمارات إفريقيا إلى إنفاق طرابلس

ما يحدث بين الحكومة وأجهزة الرقابة يذكّر على نحو مقلق بملفات فساد أخرى، أبرزها ملف “محفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار”، التي تبخّر منها أكثر من 1.15 مليار دولار في مشاريع خاسرة أو أصول مصادرة، والقاسم المشترك هنا هو غياب المساءلة، وتكرار أسماء المسؤولين رغم تقارير الفساد، واستغلال المناصب كأدوات نفوذ شخصي وسياسي.

وهنا أيضاً، الرقابة كانت غائبة أو متواطئة، والقضاء صامت، والحكومة، السابقة أو الحالية ـ عاجزة أو غير راغبة في فتح الملف، والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف يمكن لجهاز رقابي يتلقى تمويلا ًمباشراً من الحكومة، بل ويضغط للحصول عليه، أن يكون مستقلاً عنها؟ وكيف يمكن لحكومة تمنح هذه الأجهزة امتيازات مالية وسياسية أن تقبل بمساءلتها الجدية؟

المعادلة الحالية تصنع دائرة مغلقة من المصالح المشتركة، فالحكومة تحتاج إلى غطاء شرعي، والأجهزة الرقابية تحتاج إلى موارد ونفوذ، والنتيجة أن الطرفين يخرجان رابحين، بينما يخسر المال العام وتضيع حقوق المواطنين.

الفساد الذي يراقب نفسه

العلاقة بين حكومة الدبيبة وأجهزة الرقابة السيادية تمثل نموذجاً صارخاً لخلل الدولة الليبية بعد 2011، فهناك مؤسسات مشوهة، وصلاحيات متداخلة، والرقيب يتحول إلى شريك في القرار المالي، واستمرار هذه المعادلة يعني أمرين خطيرين؛ أولا، تحصين الفساد عبر أجهزة يُفترض أنها مخصصة لمحاربته، وثانياً، ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، حيث لا أحد يحاسب أحداً، والجميع يختبئ خلف نصوص قانونية مرنة وحجج تقنية عقيمة.

والتحرر من هذه الحلقة المفرغة يتطلب إصلاح تشريعي يعيد تعريف اختصاصات الأجهزة الرقابية بدقة، ويمنع تضارب المصالح مع الحكومة، وإصلاح مالي وإداري يضمن استقلالية ميزانيات هذه الأجهزة عن السلطة التنفيذية، والأهم تفعيل قضائي صارم يفرض المساءلة على الجميع، بلا استثناءات أو محاباة، وإلى أن يتحقق ذلك، سيظل المشهد الليبي حبيس معادلة خطيرة حيث الفساد يراقب نفسه، والمال عام يُدار كغنيمة بين أطراف يفترض أنهم حراس الأمانة.

بقلم نضال الخضري

ليبيا.. صندوق إعادة إعمار درنة يبدأ عمليات صيانة للمجمعات السكنية

اقرأ المزيد