يشبه ما يحدث في حرب إسرائيل من حيث الشكل الاستراتيجي وقائع عام 1967، عندما غدت هزيمة الحرب كسبا استراتيجيا أمريكيا سواء على مستوى سمعة السلاح السوفييتي، أو اعتماد الشرق عليه كحليف استراتيجي.
وبعد عام على حرب غزة يصعب التوقف فقط على سير العمليات القتالية، فهذا الصراع اتخذ شكلا غير مألوف بالنسبة لإسرائيل على الأقل، حيث تخوض حربا خارج عقيدتها العسكرية التي وضعها مؤسسها دافيد بن غوريون.
وانتهت “الحرب الخاطفة” التي قامت عليها وهزمت فيها الدول العربية حتى عام 1967، وفي المقابل فإنها وبعد حرب تشرين 1973 انتهت حروب الدول المباشرة معها وبدأت تخوض معارك متفرقة كان أشرسها ما حدث 2006 عندما اضطرت للتفاوض على عكس مبدئها في فرض شروطها بعد كل حرب.
وفي الحرب الأخيرة هناك تغير خاص لا تفرضها العقيدة العسكرية الإسرائيلية فقط؛ بل متطلبات دولية متعلقة بتصفية المحاور الإقليمية، وهو ما جعل الولايات المتحدة جزء من تلك المعركة عبر الغطاء السياسي الذي منحته لإسرائيل على مدى عام، ورغم أن أهداف الحرب المعلنة لم تتحقق عبر تحرير الرهائن لكن يمكن التوقف عند نقطتين أوليتين:
- الأولى أن الحرب استنزفت بعضا من القوة الإسرائيلية سواء على الصعيد الاقتصادي أو حتى البشري، لكن تبقى القوة التدميرية غير المسبوقة التي تم استخدامها تطرح مفارقة جول الهدف الأساسي من المعركة، حيث لا يحتاج تحرير الرهائن إلى التدمير الهائل الذي شكل نموذج ردع وهدفا أساسيا من هذه الحرب، فحماس ستبقى موجودة، وحزب الله أيضا، لكن معادلة الصراع حيدت القوتين لصالح التحالف الغربي مع إسرائيل، وقدمت المحور الآخر الذي تتزعمه إيران في حالة انكفاء وعدم قدرة على التحرك بمرونة لردع إسرائيل.
- النقطة الثانية هي مسألة الحرب الإقليمية التي استخدمت كسلاح في مواجهة كافة قوى المنطقة باستثناء إسرائيل، فهي تدحرجت منذ اللحظة الأولى باتجاه الشكل الإقليمي بعد أن عززت الولايات المتحدة قوتها العسكرية في المنطقة، فالحديث عن منع اندلاع صراع إقليمي كان في حقيقته تلويح بالقوة تجاه حزب الله بالدرجة الأولى وإيران كقاعدة لجبهة إقليمية كاملة.
عمليا، فإن الولايات المتحدة وطوال أشهر الحرب لم تكن تتحدث سوى عن هدنة من أجل الحالات الإنسانية، وهو أمر لا يرتبط بالتدخل السياسي إنما إتاحة للوقت كي تستطيع إسرائيل التحرك لتحقيق أهداف استراتيجية عامة تعني الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وذلك بعيدا عن الاحتياجات الإسرائيلية الأمنية المعلن عنها.
الولايات المتحدة والحرب
قدمت الولايات المتحدة في السنة المالية 2023 وحدها حوالي 3.8 مليار دولار كمساعدات، لكن هذا الرقم تطور كثيرا نتيجة الحرب في غزة.
والجيش الإسرائيلي لم يعانِ من نقص الذخائر والعتاد، والأهم من ذلك أنه على المستوى التكتيكي كان آمنا نتيجة تأمين للجبهات الأخرى وخصوصا ما يمكن أن يأتيها عبر إيران، فالتلويح بالقوة لم يقتصر فقط على العامل النفسي.
وكانت عمليات الاغتيال الإسرائيلي في سوريا ولبنان طوال الحرب تؤشر على أن اشتعال الجبهة في غزة لم يكن يعني بالنسبة لإسرائيل سوى بوابة لتصفية محور كامل، وتقديم إيران على أنها الدولة الإقليمية التي تخسر أدوارها لصالح إسرائيل بكل ما تمثله من تحالفات مع الولايات المتحدة والغرب بشكل خاص.
بالنسبة للتحالف الذي تقوده إيران فهو يعرف مسبقا التفوق العسكري الإسرائيلي، لكن حرب غزة أوضحت أن الغرب عموما تخلى عن سياسات التهدئة، أو منع إسرائيل من التعامل بشكل مباشر مع إيران، وتم تقديم نموذج عبر ضرب إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق.
وظهر الرد الإيراني محاصر بتحالف غربي كامل لم يمتص الضربة الإيرانية فقط، بل أوضح للجميع أنه يريد لإسرائيل تنفيذ وظائف في تصفية هذا التحالف.
وكان واضحا أن الانكشاف الأمني لحزب الله في هذه الحرب هو في النهاية نتيجة حصار استخباراتي للحزب، فصحيح أن اغتيال القادة حدث في مراحل متأخرة، لكن إسرائيل كانت تغتال عناصر الحزب منذ بداية المعارك وذلك بغض النظر عن الاشتباك الحاصل في الجنوب اللبناني.
بالنسبة للولايات المتحدة فإن المعارك الجارية تشكل مرحلة تأسيس مختلفة لمنظومة الأمن الإقليمي في شرقي المتوسط، فبعد تخلخل جبهة إيران نتيجة ثورات الربيع العربي، وعلى الأخص سوريا التي كانت العمق الخاص لحزب الله، باتت مسألة إنهاء الدور الإيراني مسألة حاسمة بالنسبة لها.
وما يحدث اليوم لا يشكل فقط محاولة لإعادة طهران إلى مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية بل أيضا تأمين منطقة كاملة في مواجهة التحولات الدولية، وخصوصا في ظل التناقض الحاد بين الغرب وكل من روسيا والصين.
احتمالات الحرب البرية
رغم رغبة حزب الله عدم توسيع دائرة الحرب، فإن الولايات المتحدة كانت تريد للمعارك في غزة أن تغير معادلة الصراع، وخوض الحرب الحالية على نفس سياق 2006 لم يعد ممكنا في ظل انهيار جبهات الدعم الأساسي ما بين طهران وبيروت، فحزب بقي على مسألة الردع ووصل إلى مرحلة عرض “بنك الأهداف” عبر ما عُرف بعملية “الهدهد”، في وقت كانت الاستراتيجية الإسرائيلية منذ 2006 وبشراكة مع الولايات المتحدة تسعى لمحاصرة أذرع إيران معلوماتيا على الأقل.
حروب الاغتيالات ليست جديدة على إسرائيل، لكنها اليوم تستهدف منظومة إقليمية كاملة، وهو أمر لا تستطيع إسرائيل القيام بها دون غطاء أمريكي مباشر فالترابط الأمريكي – الإسرائيلي هو “عضوي” لأبعد الحدود.
وأن تفكيك جبهة إيران في النهاية هو غاية استراتيجية أمريكية وإسرائيلية تظهر بقوة اليوم، وهذا الكسب سيؤثر دوليا على الأقل في التعامل الأمريكي مع الشرق الأوسط في مواجهة الصين وروسيا، فنوعية المعركة على المستوى الدولي لم تعد معنية بأي احتلال إسرائيلي لأراضي لبنانية في الجنوب، وما سيشعل أي اجتياح إسرائيلي لجنوب لبنان هو موضوع مرتبط بالسياسات التي تريدها حكومة بنيامين نتنياهو لفرض شروط إقليمية.
وتبقى احتمالات الحرب البرية قائمة وتملك كافة العوامل التي ربما تدفع إسرائيل للدخول في مغامرة عسكرية، لكن الحسابات الميدانية تبدو أساسية كيلا يصبح الجنوب جغرافية لتشتيت الأهداف الأمريكية والإسرائيلية.
ويبقى الخيار قائما مادام حزب الله قادرا على إطلاق صواريخه باتجاه إسرائيل، فهو الإجراء الأخير الذي يمكن أن تلجأ إليه إسرائيل لفرض تفاوض سياسي مختلف عن قرارات الأمم المتحدة السابقة.
والحرب في غزة ولبنان هي تحول كامل بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل لأنها تريد كسر نموذج إقليمي يشكل بالنسبة لها عائقا على امتداد ثلاثة عقود متواصلة.
بقلم مازن بلال
قبائل موريتانية تحقق رقماً قياسياً في حجم التبرعات لغزة