ينقل الصراع حول جمعية الدعوة الإسلامية، نموذجاً لنزاعات محلية تسبب بانهيار مؤسسات ليبية عريقة، فالمسألة لا ترتبط فقط بهذه الجمعية بل بنوعية الخلافات التي تعصف بالغرب الليبي عموما.
وكرست جمعية الدعوة الإسلامية، والمعروفة باسم “الدعوة” على مدى عقود صورة مشرقة للعمل الديني والإنساني، لكنها في ظل الواقع الحالي تعيش أزمة مرتبطة بمشاكل السلطة في طرابلس وبالخلافات الدائرة بين الأطراف المتنازعة بما في ذلك رئيس الوزراء المنتهية ولايته، عبد الحميد الدبيبة، وشخصيات أخرى مثل عبد الله لافي من المجلس الرئاسي.
ويشكل هذا الخلاف مساراً نشأ من التناقض بخصوص الشرعية والسيطرة على أصول مالية كبيرة، ويهدد عملياً مساحة واسعة من المؤسسات الليبية بما فيها جمعية “الدعوة”.
أصول النزاع
لعبت جمعية الدعوة الإسلامية التي تأسست في عام 1972، دوراً هاماً في نشر الفكر الإسلامي وتقديم المساعدات الإنسانية في مختلف أنحاء العالم.
واستطاعت على مدى العقود تجميع مساهمات واستثمارات من العديد من البلدان، ما جعلها مؤسسة مؤثرة على المستويين المحلي والدولي، لكن موقعها الدولي والمحلي تراجع بشكل سريع خلال السنوات الماضية، وانحسر دورها بسبب الصراعات الداخلية بين الفصائل السياسية في ليبيا.
وبدأت آخر أزمات جمعية الدعوة في سبتمبر 2024 مع إصدار حكومة الدبيبة القرار رقم 477 القاضي بتعيين مجلس إدارة جديد لها، وأثار هذا القرار غضباً من مختلف الجهات، بما في ذلك عضو المجلس الرئاسي عبد الله لافي، الذي وصفه بأنه انتهاك للأطر القانونية القائمة.
واعتبر اللافي أن مثل هذا التعيين يجب أن يصدر من قبل هيئة تشريعية خاصة بالدولة وليس عن السلطة التنفيذية المتمثلة برئاسة الوزارة، وأعطى هذا الخلاف بين اللافي والدبيبة مجالا ًواسعاً لخلافات حول المرجعية القانونية لمثل هذا الإجراء الذي يمس الجمعيات بشكل عام، وفتح باباً واسعاً لصراع جديد داخل أجهزة الدولة الليبية.
النزاعات القانونية وادعاءات التدخل غير القانوني
كانت هناك معارضة كبيرة لخطوة الدبيبة منذ بداية ظهور هذه المسألة داخل الأوساط السياسية عموماً، فالعديد من السياسيين، بما في ذلك لافي وأعضاء مجلس النواب، اعتبروا أن قرار رئيس الوزراء بتعيين المجلس اتُخذ دون السلطة القانونية المناسبة.
واستندت هذه المطالبات إلى تشريعين رئيسيين: القانون رقم 58 لسنة 1972، الذي يحدد أسس وبنية جمعية الدعوة الإسلامية، والقانون رقم 9 لسنة 2023الذي يحدد اختصاصها القانوني وإدارتها.
وضمن هذا الجدل القانوني داخل مؤسسات الدولة الليبية أكد عضو مجلس الدولة الليبي، سعيد بن شرادة، أن إدارة جمعية الدعوة الإسلامية يجب أن تخضع لاختصاص الهيئة التشريعية، بالتشاور مع الشركاء الدوليين الذين لديهم مصالح في المنظمة، وحذر شرادة، إلى جانب منتقدين آخرين، من أن تصرفات الحكومة تعرض المكانة الدولية للجمعية للخطر وتهدد استقرار استثماراتها داخل وخارج ليبيا.
ولكن حكومة الدبيبة دافعت عن قرارها معتبرة أن التغييرات في قيادة جمعية الدعوة الإسلامية ضرورية لتحسين أدائها وضمان إدارة أفضل لأصولها الضخمة، ومع ذلك، فشل هذا التفسير في تهدئة المخاوف. ورأى المتابعون لهذه المسألة سواء على المستوى السياسي أو حتى القانوني أن النزاع مرتبط بالسيطرة على الموارد المالية الكبيرة للجمعية، وليس خلافاً قانونياً أو محاولة لتحسين أداء الجمعية وتطوير عملها.
المخاطر المالية والتداعيات الدولية
يدور أحد الجوانب الرئيسية لهذا الصراع حول الموارد المالية الكبيرة للجمعية، فهي تستثمر مبالغ ضخمة للأعمال الخيرية والدينية، بما في ذلك دعم المجتمعات الإسلامية على مستوى العالم، وهذه الأموال مخصصة للاستخدام لتحسين أحوال المسلمين في جميع أنحاء العالم وتعزيز التعليم الديني والمساعدات الإنسانية.
ومع التعديل الحكومي الأخير تصاعدت المخاوف بشأن إساءة استخدام هذه الأموال، حيث أعربت الجمعية في بيان أصدرته في سبتمبر عن خشيتها من أنه في غياب الرقابة القانونية المناسبة، يمكن تحويل هذه الأموال أو اختلاسها، وحذرت الإدارة الحالية للجمعية من أن رفع الضوابط المالية من قبل ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية سيجعل حساباتها عرضة للتحويلات غير القانونية والسرقة.
ولم يزعج هذا الغموض المالي المراقبين المحليين فحسب، بل الشركاء الدوليين أيضا الذين ساهموا في أموال الجمعية، فهناك أكثر من 50 دولة إسلامية تشارك في أعمال الجمعية، ويخشى الكثيرون منهم أن يكون لهذا الصراع الداخلي على السلطة في ليبيا عواقب بعيدة المدى، بما في ذلك الإضرار بمصداقية الجمعية وتعريض مشاريعها الدولية للخطر.
التداعيات السياسية
الصراع حول جمعية الدعوة الإسلامية ليس معزولاً عن أشكال الاحتكاك السياسي الأوسع في ليبيا، حيث تتنافس الفصائل المختلفة على السيطرة على المؤسسات.
وبقيت جمعية الدعوة الإسلامية التي بقيت مؤسسة محايدة لسنوات عديدة، وتركز على العمل الإنساني والديني، أصبحت الآن عالقة داخل مساحة الطموحات السياسية.
ويظهر هذا “الاشتباك” السياسي بشأن الجمعية من خلال موقف صالح الفاخري، الذي عينه مجلس النواب لقيادة لجنة توجيهية تشرف على مركز الخدمات المتكاملة، حيث أصدر تحذيرات قانونية للمؤسسات المالية الليبية، بما في ذلك بنك الجمهورية، وحثها على عدم الاعتراف بالمجلس الجديد أو التعامل معه، كما أكد أن أي معاملات يصرح بها للإدارة الجديدة ستكون غير قانونية وعرضة للملاحقة القضائية.
في المقابل حاول المجلس الرئاسي، ممثلاً بشخصيات مثل لافي، التوسط في الموقف، وحث الحكومة على احترام القواعد القانونية والسماح للهيئة التشريعية بالتعامل مع مثل هذه التعيينات.
ويتماشى موقف المجلس مع موقف مجلس النواب، الذي ينظر إلى تصرفات الحكومة باعتبارها استيلاء على السلطة، ورغم هذه الجهود المبذولة للوساطة، فإن الموقف لا يزال دون حل، وتستمر جمعية الدعوة الإسلامية في العمل في ظل واقعقانوني وسياسي مضطرب مع انقسام قيادتها بين الموالين لحكومة الدبيبة وآخرين معارضين لها.
وتعكس معركة السيطرة على جمعية الدعوة الإسلامية القضايا الأوسع التي تواجه ليبيا، ومع انخراط المحاكم في الأمر، فمن المرجح أن يتوقف مستقبل جمعية الدعوة الإسلامية على القرارات القانونية التي ستؤيد أو تلغي تعيين الدبيبة لمجلس إدارة جديد.
وبغض النظر عن النتيجة، فإن هذا الصراع يوضح مدى خطورة الانقسامات العميقة في السياسة الليبية، حيث تمتد إلى المؤسسات التي من المفترض أن تخدم الصالح العام.
وبالنسبة لجمعية الدعوة الإسلامية، فإن المسألة لا تقتصر على أصولها المالية فحسب، بل تشمل أيضا سمعتها كمؤسسة إسلامية عالمية، ومع استمرار التحديات القانونية وبقاء التوترات السياسية فإنهاستحتاج إلى العملضمن مشهد معقد للحفاظ على مهمتها والحفاظ على مكانتها في ليبيا وعلى الصعيد الدولي.
بقلم نضال الخضري
دعوة الدبيبة الدستورية: لعبة قوة أم طريق إلى الاستقرار؟