شهدت منطقتا برقة وفزان حدثاً سياسياً غير مألوف في الأسبوع الأخير، فآلاف المتظاهرين خرجوا في شوارع المدن الليبية الكبرى والصغرى، مطالبين بانتخابات رئاسية عاجلة من دون تدخل أجنبي.
رغم أن ليبيا شهدت موجات احتجاج سابقة، فإن هذه الموجة تحمل طابعاً مختلفاً في توقيتها، وهوية المشاركين فيها، وطبيعة الرسائل التي وجهتها، فلم تكن مجرد مظاهرة، بل اختباراً لمدى قدرة البلاد على الانتقال من حالة الصراع الطويل إلى مسار سياسي واضح.

حراك جماهيري خارج الحسابات التقليدية
منذ بداية المظاهرات، كان واضحاً أن المشهد لا يشبه أي تحرك سياسي سابق، فزخم الشارع لم يتكون نتيجة دعوات حزبية أو تحريض إعلامي، بل جاء من الداخل، ومن المواطنين أنفسهم، ما جعل الحراك أكثر تعبيراً هو أنه تشكّل من قاع المجتمع لا من قمته.
في المدن الشرقية خصوصاً، المشهد كان أقرب إلى حالة تعبئة عامة؛ فعائلات وشباب وكبار سن وموظفون وأساتذة جامعات، وحتى بعض الشخصيات الاجتماعية خرجت بوضوح للتعبير عن موقف واحد، مطالبين بأن يختار الليبيون قيادة شرعية.
جيل غاب عنه مشهد الدولة لكنه يتقدم الصفوف
الملاحظة الأكثر دلالة كانت المكانة المركزية للشباب، ففي بنغازي كان الطلاب المحرك الأساسي للمظاهرات، فهذا الجيل لم يعش تجربة مؤسسات دولة فاعلة، بل عاصر الانقسام الحكومي والحروب، وتقلّب شرعية السلطة بين عواصم خارجية.
فالشباب يشعر اليوم بأن مستقبلهم يُدار من فوق رؤوسهم، فتحركوا من باب المطالبة بحق بديهي، وهو اختيار رئيس واحد تكون مهمته إعادة بناء الدولة، وحضورهم القوي يضيف بعداً مهماً، لأن الشباب في ليبيا جرى التعامل معهم ككتلة صامتة، أما الآن فهم الفاعل المباشر الذي يصوغ خطابه الخاص.

الكبار أيضا في الميدان… تجربة تؤيد الحاجة إلى الحسم
لم يكن الشباب وحدهم، فالأجيال الأكبر شاركت بوضوح، وكثير من المشاركين تحدثوا عن دور المشير خليفة حفتر باعتباره رمزاً للاستقرار في الشرق، فبعد سنوات من الفوضى التي سببتها الجماعات المتطرفة، وجد أهالي برقة في حفتر ضمانة أمنية، وهذا ما انعكس في الشعارات والهتافات.
غير أن الدلالة هنا ليست في شخصه فقط، بل في أن المواطنين يبحثون عن مرجعية ثابتة وشكل واضح للسلطة، وبالنسبة لكثيرين، الأمن كان بوابة الاستقرار الذي يشكل الطريق الوحيد لإطلاق عملية سياسية سليمة.
الحدث الأعمق في جمعة تقرير المصير كان التلاقي الطبيعي بين جيلين؛ يختلفان في التجربة لكنهما يلتقيان في الهدف، فالشباب يريدون بناء دولة حديثة تنهي حالة الانتظار الطويل، والكبار يريدون ضمان استقرار يحفظ ما تبقى من تماسك المجتمع.
هذه الثنائية شكّلت قاعدة احتجاج صلبة، وما حدث لم يكن ثورة شباب فقط، ولا تمرداً لأصحاب التجارب القديمة، بل تحالفاً اجتماعيا ًنادراً حول مطلب واحد يعطيه وزناً مضاعفاً.

عقيلة صالح يدخل على الخط… والسياسة تتحرك
وسط هذا المشهد، جاء نداء عقيلة صالح للمفوضية العليا للانتخابات ليرفع سقف القضية، فدعوته إلى فتح باب الانتخابات فوراً كانت أول موقف رسمي واضح ينضم إلى صوت الشارع.
ورغم أن المواقف السياسية في ليبيا كثيراً ما تتغير بحسب السياق، فإن توقيت هذا النداء جعله أشبه بإعلان استعداد للتقدم نحو حل عملي، فبالنسبة للمتظاهرين، كان بمثابة اعتراف رسمي بأن مطالبهم مشروعة وتستحق التحرك الفوري.
ويبقى السؤال كيف ستتفاعل سلطات الغرب مع ما حصل؟ المؤشرات لا تؤكد استعدادا ًكاملا ًللتجاوب مع مطلب الانتخابات، فهناك تردد واضح، وربما حسابات تتجاوز الداخل، فالنخب السياسية في طرابلس تنظر إلى فكرة الانتخابات من زاوية الموقع الذي ستمنحه لها النتائج، وليس من زاوية ضرورة الخروج من حالة الجمود، ما يزيد الشعور في الشرق بأن طرابلس يتعامل مع المسار السياسي كأنه ورقة تفاوض لا حق عام، وهو شعور خطير لأنه يهدد الحد الأدنى من الجسور التي تربط بين الإقليمين.

الخطر الذي أشار إليه حماد يعود إلى السطح
وسط هذا الحدث تعود إلى الواجهة تصريحات أسامة حماد بشأن احتمال أن يتجه الشرق إلى الحكم الذاتي، أو حتى الانفصال إذا استمرت سياسة التجاهل، وتحذيره لم يعد مجرد توقع نظري، فالمزاج العام في بعض مدن برقة وفزان بدأ يتحدث صراحة عن ضرورة التفكير في خيارات بديلة إذا بقيت السلطة المركزية في طرابلس غير قادرة على الاستجابة، ففكرة الانفصال ليست خياراً سهلاً، ولا تحظى بإجماع، لكنها لم تعد من المحرمات السياسية في الشارع.
عمليا فإن تجاهل الحراك الشعبي لن يمر من دون أثر، وأول نتائجه هي تعميق الانقسام النفسي والسياسي بين شرق البلاد وغربها، فالفجوة الحالية ليست إدارية فقط، بل مرتبطة بالثقة، فالشرق يشعر أن القرارات الحاسمة لا تُحترم، وأن المسارات السياسية تصمم وفق توازن قوى غير عادل.
إذا استمرت هذه الفجوة، فمن الصعب تخيل ليبيا موحدة تحكمها سلطة واحدة، وستبقى البلاد موحدة شكلاً، لكنها ستكون عمليا ثلاث دول: شرق وغرب وجنوب، لكل منها مصالح وأجندة ونخبة محلية.

الانتخابات كمخرج وحيد من الدوامة
في المقابل، يظل خيار الانتخابات هو الطريق الأكثر واقعية للخروج من الأزمة، فهي لا تعني انتصاراً لطرف على آخر، بل الوسيلة الوحيدة لتوليد شرعية جديدة، بعد أن استهلكت البلاد كل أشكال التسويات القائمة على المحاصصة.
المفوضية جاهزة من الناحية اللوجستية، والليبيون أنفسهم مستعدون للتصويت، كما أثبتت جمعة تقرير المصير، ويبقى فقط أن تتفق الأطراف على قواعد واضحة تُطبق من دون إقصاء أو مناورة.

هل يملك الغرب الشجاعة السياسية؟
السؤال الذي اوجدته الاحتجاجات هو هل ستتحلى السلطات في طرابلس بالشجاعة لتتبنى مساراً انتخابيا ًشاملاً، أم ستستمر في سياسة الانتظار؟ ورغم أن القرار ليس سهلا، لكنه ضروري، فالمماطلة لا تكسب الوقت، بل تضيعه، وترك الشارع يغلي من دون استجابة سيدفع الشرق لاتخاذ خطوات أحادية لن يكون من السهل التراجع عنها لاحقاً، وليبيا التي نجت من حروب كثيرة ستواجه مخاطرة جدية إذا انقسم نسيجها الاجتماعي على أساس جغرافي.
كانت جمعة تقرير المصير علامة فارقة في المشهد الليبي، فالشباب خرجوا ليقولوا إن مستقبلهم ليس ملكاً للنخب السياسية، والكبار خرجوا ليؤكدوا أن الاستقرار لم يعد يحتمل التأجيل، ووالرسالة التي انطلقت من برقة وفزان لم تكن دعوة للعصيان، بل لإعادة الاعتبار إلى صندوق الانتخابات باعتباره الطريق الوحيد لإنقاذ البلاد.
تقف ليبيا اليوم أمام مفترق طرق حقيقي، فإما أن تستجيب سلطات الغرب لصوت الشارع وتفتح الباب لانتخابات رئاسية تعيد تشكيل الدولة، أو تترك البلاد تنزلق نحو خيارات أشد تعقيداً، لن يكون من السهل احتواؤها.
بقلم نضال الخضري
ليبيا.. تفكيك شبكة إنتاج خمور مسمومة تسببت بوفيات وإصابات
