05 ديسمبر 2025

بينما قدمت رئيسة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، هانا تيتيه، تقريرها الجديد إلى مجلس الأمن، يبدو أن الوقت حان لمساءلة كل ما تم فعله، وكل ما تم التغاضي عنه منذ أن وُضعت ليبيا تحت الفصل السابع قبل أكثر من عقد.

ففي بلد تحوّل إلى ساحة مفتوحة للتجريب الدبلوماسي، والمساومات الدولية، لم تعد الكلمات المنمقة كافية لتجميل الفشل المزمن في إنتاج حل سياسي قابل للحياة، وتبدو تيتيه في إحاطاتها الأخيرة وكأنها تكتب على حواف الهاوية، فتشخص ولا تحاسب، وتشجب دون أن تدين، وتتحدث عن مشاورات شاملة ومداولات قيد الإنجاز، بينما تتزايد مؤشرات الانفجار في طرابلس، ويُخشى من إعادة رسم خريطة الصراع مجددا؛ لا بفعل قوى الداخل فحسب، بل بسلبية الخارج.

عشر سنوات من الالتفاف على جوهر الأزمة

تاريخ بعثة الأمم المتحدة في ليبيا سجل متواصل من الإخفاقات المتراكبة، فعشرة مبعوثين تناوبوا على إدارة ما يُفترض أنه مسار سياسي؛ لم ينتجوا إلا ترتيبات هشة ومسارات غير مكتملة، فمن عبد الإله الخطيب حتى عبد الله باتيلي، لم ينجح أحد منهم في هندسة حل، بل بالكاد استطاعوا إدارة الانهيار.

وبينما تركز البعثة اليوم على دعم لجنة استشارية جديدة، تبدو هذه الخطوة تكرارا منهجيا لما سبق، حيث خلط الأوراق، وتدوير الأسماء، دون جرأة في تسمية من يعرقلون أو مساءلتهم، فالحديث عن “توافق ليبي” و”خارطة طريق” باتا عناوين خطابية تخفي وراءها تقاعسا في استخدام الأدوات المتاحة أمميا لفرض الالتزام.

الدبيبة ودار الإفتاء: تحالف النفوذ واللاشرعية


في قلب هذه الأزمة، يبرز التحالف بين رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة ودار الإفتاء، وهو ما وصفه السياسي الليبي عبد المنعم اليسير بـ”التحالف الضمني” الذي يتجاوز التكتيك سياسي ليصل إلى ممارسة ممنهجة لإعادة إنتاج الشرعية الدينية كغطاء لاستمرار الهيمنة على مفاصل الدولة، حيث يستغل الدبيبة الغطاء الديني لتعزيز قبوله في الشارع، فيما تتمدد دار الإفتاء إلى الفضاء التنفيذي، متجاوزة وظيفتها الرمزية إلى ممارسة سلطة فعلية.


هذا التحالف، المدعوم بصمت أممي مريب، يقطع الطريق على أي تغيير حقيقي، فالأمم المتحدة التي يفترض أن تكون ضامنا للحياد تصمت إزاء تحوّل المؤسسات الدينية إلى أدوات صراع سياسي، وفي هذه الحال يصبح إجراء انتخابات مسألة شكلية إذا لم يُعاد النظر في من يتحكم بمداخل اللعبة ومخارجها.

حين تصبح البعثة جزءا من الأزمة

تحولت البعثة إلى ما يشبه غرفة العمليات البيروقراطية، وفق تعبير اليسير، وسقط دورها من كونها “مسارا مبنيا على فهم عميق للواقع الليبي” إلى مجرد إدارة ملفات دون رؤية، وحتى حين مارست ويليامز ضغوطا حقيقية في ملتقى جنيف، فإن النتيجة كانت سلطة انتقالية مؤقتة أفرزت الدبيبة نفسه، الذي انقلب لاحقا على التعهدات.

وفي تكرار لما حصل مع برناردينو ليون، الذي غادر البعثة ليشغل منصبا في مؤسسة إماراتية، تبدو مصالح بعض المبعوثين أكثر التصاقا بمساراتهم المهنية من ارتباطها بإنهاء الأزمة، فالشخصية الاعتبارية للمبعوث لم تعد محل ثقة، خصوصا في بيئة مشبعة بالتدخلات المتضاربة، حيث يصعب التمييز بين التقدير المهني والولاء السياسي.

“الزوايا الست”… مرآة للفوضى الليبية خارج الحدود

ليست أزمة الحكم في ليبيا حبيسة خرائطها الداخلية، بل تتسرب تداعياتها إلى الفضاء الأوروبي، كما يكشف مثال قضية “الزوايا الست” في ميلانو، فهذه المؤسسات الدينية والثقافية الست، التي تموّلها الجالية الليبية، كان يفترض أن تعمل كمراكز خدمية وروحية، لكنها مثل العديد من الكيانات في غرب ليبيا إلى أدوات صراع بين شبكات مرتبطة بتيارات الإسلام السياسي وميليشيات نافذة، والتقارير الإيطالية والمحلية تكشف عن تجاوزات مالية وتنظيمية واسعة، وعن غياب شبه كامل للرقابة، ما جعل هذه المراكز مجالا مفتوحا للاختراقات الخارجية والتمويل غير المشروع.

هذا المشهد ليس عارضا، بل انعكاس مباشر لعطب الدولة الليبية في ممارسة ولايتها على مواطنيها ومؤسساتها في الداخل والخارج، وكما تُخضع الميليشيات في طرابلس ومصراتة المؤسسات المحلية لإرادتها، نجد أن ولاءات مشابهة تتمدد إلى جاليات الخارج، لتُحوِّلها إلى رهائن لصراعات السلطة، ولشبكات النفوذ العابرة للحدود.

وفي السياق نفسه، تواصل فضيحة نُجيم كشف خيوطها؛ فقضية بدأت كملف فساد محلّي، ثم تمددت لتلامس وزراء ومسؤولين في أكثر من عاصمة أوروبية، ورغم المؤشرات على علم دوائر سياسية عليا، بينها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ببعض تفاصيلها، ظلّت الحصانة السياسية أقوى من المساءلة.

وسط هذه التداخلات، يطرح السؤال نفسه عن دور بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، فهل تكتفي البعثة بمراقبة الفوضى العابرة للحدود، أم أنها أصبحت، بسلبيتها أو انحيازها، جزءا من بيئة تسمح بتمدد نفوذ الميليشيات، ليس فقط على الأرض الليبية، بل في أوروبا أيضا؟

من أبو سليم إلى الزاوية: إفلات كامل من المحاسبة

تقرير تيتيه الأخير تحدّث عن مقابر جماعية في أبو سليم، وانتهاكات موثقة ترتكبها جهات أمنية مرتبطة بجهاز دعم الاستقرار، فيما لم تتجاوز الاستجابة الأممية مستوى الدعوة إلى التحقيق، فلا تعليق للمسؤولين، ولا تصنيف للجهات، ولا وضع على قوائم العقوبات، والأكثر خطورة أن هذه الانتهاكات تقع في الغرب الليبي الذييعد نظريا تحت إشراف الحكومة التي تعترف بها البعثة.

لا يمكن الحديث عن إخفاق مهني فقط، بل عن تواطؤ بالصمت، فإذا كانت بعثة الأمم المتحدة غير قادرة على تسمية الجناة، فما جدوى كل هذا الاستعراض الدبلوماسي؟

الولايات المتحدة.. الفاعل الذي لا يُساءَل

من خلف الستار، تواصل الولايات المتحدة هندسة مشهد خاص بها؛ متجاوزة الأطر الأممية إن لزم الأمر، والجديد هو انكشاف هذا التوجه بلا مواربة، فوسط شلل مجلس الأمن، تتحرك واشنطن مباشرة مع أطراف محلية، وتبني شبكات نفوذ أمنية واقتصادية، وتصنع خرائط بديلة للحل.

المفارقة أن هذه السياسات غالبا ما تندرج تحت عنوان “دعم الاستقرار”، بينما تعيد إنتاج نفس الاصطفاف التي فجّر الوضع، فمن يضمن أن الشركاء المحليين لأمريكا اليوم ليسوا أنفسهم معرقلي الأمس؟

المطلوب تغيير جذري في نهج البعثة

إذا كانت تيتيه صادقة في وصف اللحظة بأنها “منعطف حاسم”، فإن المطلوب ليس تقريرا آخر، بل تحولا بنيويا في سلوك البعثة، فتتوقف عن لعب دور الميسر المحايد في حين أن الواقع يتطلب فاعلا يمتلك أدوات الضغط والردع، وأن تغادر مربع المشاورات إلى مربع الإلزام.

لم يعد السؤال المطروح في ليبيا هو: كيف نحل الأزمة؟ بلمن المستفيد من استمرارها؟ والجواب، للأسف، يشمل أطرافا داخلية وخارجية، رسمية وأممية.

المساءلة يجب أن تشمل البعثة ذاتها، فكما يُسائل المجتمع الدولي الليبيين عن تقدمهم نحو الانتخابات، يجب أن يُسائل الليبيون البعثة عن أسباب فشلها في بلوغ أهدافها طيلة 14 عاما.

بقلم: مازن بلال

ليبيا.. حجز سيارات تونسية وإحالة أصحابها للتحقيق بتهمة التهريب

اقرأ المزيد