مسألة “الإغلاق الجزئي” التي طفت على سطح الحدث الليبي بدت حالة عابرة، فحرس المنشآت النفطية الذين استخدموا هذا الإجراء لتحصيل حقوقهم المالية، أعادوا فتح الحقول والخطوط ولكنهم في نفس الوقت أثاروا مجددا مفارقة النفط الليبي على مستوى الأزمة التي تعيشها البلاد.
وأصبحت العلاقات الداخلية خاضعة اليوم لتجاذبات مختلفة، رغم أن حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس لم تعلق على هذا الحدث، واكتفى رئيس الحكومة بإصدار قرار لتحديد مرتبات منتسبي جهاز حرس المنشآت النفطية وذلك وفقا لجدول المرتبات الموحد لمنتسبي الجيش الليبي، ولكن في نفس الوقت فإن التعثر في عملية استقرار التدفق النفطي تؤثر على مجمل الواقعين السياسي والاقتصادي في ليبيا.
عمليا فإن ليبيا تنتج 1.2 مليون برميل من النفط الخام يوميا، لكن هذا الرقم كان خاضعا لتبدلات مختلفة، حيث انخفض من حوالي 1.7 مليون برميل يوميا عام 2010 إلى 7 آلاف برميل يوميا في أغسطس 2011، ثم دخل في مرحلة تعافي بطيء ليصل إلى حوالي 1.5 مليون برميل يوميا عام 2012، قبل أن ينخفض مرة أخرى بسبب الصراعات المسلحة والعقوبات وانقطاع الكهرباء، وفي عام 2020 بلغ متوسط إنتاج النفط في ليبيا حوالي 300 ألف برميل يوميا، وبعد عام 2021 مع رفع الحصار عن موانئ التصدير فإن الإنتاج النفطي عاد إلى معدل قريب مما كان عليه قبل اندلاع الاضطرابات عام 2011.
الجانب الأساسي الذي أثاره الإغلاق الجزئي الأخير في نهاية فبراير يتعلق بالتأثيرات المترتبة عن عدم الاستقرار في الإنتاج النفطي عموما وتأثراته على العلاقات داخل الأطراف المتنازعة، ويمكن ملاحظة مجموعة من المؤشرات الأساسية في هذا الأمر:
1. تعتبر ليبيا ثاني أكبر احتياطي نفطي في إفريقيا بحوالي 48 مليار برميل، وتكرار توقف إنتاج النفط أثر على الإنتاج العالمي للنفط، رغم أنها لا تساهم سوى بنسبة قليلة من الصادرات النفطية العالمية، لكن مسألة توزيع الإيرادات يشكل بالنسبة للغرب بشكل خاص معضلة عميقة، فهو لا يريد ظهور طرف إفريقي قوي يمكن أن يغير من المعادلات القائمة في القارة.
ترتبط مسألة الصراع الدولي في لجم أي تجرية يمكن أن ترسم ملامح لعودة الدور الليبي المؤثر، فتوزع الثروة النفطية بين المناطق الشرقية والغربية، حيث تستحوذ المنطقة الشرقية على معظم حقول النفط والغاز في البلاد، في المقابل، تسعى الحكومة في طرابلس للحفاظ على حصتها من إيرادات النفط، وهي تستحوذ على ما يقدر بـ 91% من إيرادات النفط التي بلغت نحو 22 مليار دولار العام الماضي، وهذا الأمر يفسر عدم التوصل إلى اتفاق نهائي في ليبيا، حيث يعتبر التوزيع الحالي أكثر انسجاما في رغبة الولايات المتحدة وأوروبا في التحكم بتدفق النفط أو حتى بأسعاره دوليا.
2. شكلت مسألة الإغلاق جزءا من عمليات الضغط المتبادل ما بين الشرق والغرب الليبي، فالتراجع الحاد عام 2014 بسبب الاضطرابات والهجمات على المنشآت النفطية تم التعامل معه بتسويات كما حدث عام 2017 بعد توقيع اتفاقات مع بعض القبائل والمجموعات المحلية التي كانت تحتج على توزيع الثروة النفطية، لكن التوازن في عمليات الإنتاج، لم تكن كافية لاستقرار العمل في حقول النفط، ففي عام 2021 فقط كان هناك تعثر في الإنتاج لأكثر من مرة بدأت في يناير عبر حقل الشرارة، أكبر حقل نفطي في ليبيا، بسبب إغلاق خط الأنابيب الرابط بينه وبين ميناء الزاوية، وفي مارس تعطل حقل الفيل، ثاني أكبر حقل نفطي في ليبيا، بسبب إغلاق صمام الأمان من قبل مجموعة مسلحة، في أبريل طال التوقف حقلي الوفاء والناقورة بسبب إضراب العمال المطالبين بتحسين الأوضاع المعيشية، وتكرر الأمر في يوليو بإغلاق خط الأنابيب الرابط بين حقل الفارغ في ميناء مليتة، وفي أغسطس 2021 توقف إنتاج حقلي السرير والمسلة في شرق ليبيا، بسبب أعمال الصيانة والتحديث، وفي سبتمبر 2021، توقف إنتاج حقل الشرارة مرة أخرى بسبب هجوم من قبل مجموعة مسلحة.
3. تحتل ليبيا المرتبة الثامنة من حيث الإنتاج ضمن منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وهو ما يعطي عمليات الإغلاق صورة لتشابك النفط والسياسة فيها، فيتحول قطاع النفط من مجرد رصيد اقتصادي إلى أداة سياسية تستخدمها مختلف الأنظمة والفصائل لتعزيز سلطتها ونفوذها. أسعار النفط العالمية تأثرت نتيجة التقلبات الليبية، ورغم أن هذه التأثيرات بقيت ضمن حدود واضحة، وانعكاساتها لم تؤد لأزمات حادة على مستوى الأسواق العالمية، لكن الملاحظ أن أسعار النفط ارتفعت بشكل ملحوظ في 2011 و2014 و2020، بسبب نقص العرض والطلب وارتباط الوضع بالتعافي الاقتصادي، ثم تحسنت أوضاع النفط في 2021 بعد رفع الحصار وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار وعودة الإنتاج إلى مستويات ما قبل الأزمة.
4. بقي توزيع الثروة النفطية في ليبيا قضية مثيرة للجدل، وأدى البحث عن التوزيع العادل إلى تأجيج الصراعات الداخلية وعرقلة الجهود الرامية إلى تحقيق المصالحة الوطنية، وهو ما يؤكد “الإغلاق الجزئي” الأخير، أو حتى عمليات مهاجمة خطوط النفط المتكررة من قبل الفصائل أو القبائل، فالتداعيات الاقتصادية لتوقف صادرات النفط أدت إلى أزمات مالية وتقويض الخدمات العامة وتفاقم الفوارق الاجتماعية.
هناك نهج شامل مفقود لمعالج التحديات السياسية والاقتصادية والفنية التي تواجه مستقبل النفط الليبي، وإذا كانت الخلافات الداخلية سببا أساسيا فإنها في نفس الوقت تستند إلى مواقف دولية تحاول التأثير على أطراف الصراع الليبي، فتحقيق الاستقرار والازدهار في ليبيا لا يتطلب إدارة ثروتها النفطية بحكمة فحسب، بل يتطلب أيضا تفعيل المنظومات الإفريقية التي يمكنها الحد من تأثير العوامل الخارجية، أو حتى خلق علاقات أكثر قوة على مستوى الشمال الإفريقي.
بقلم مازن بلال
الصراع على السلطة في المصرف المركزي وسط الفوضى الليبية