دخل التصعيد في ليبيا مرحلة حرجة مع ظهور دعوات للحرب ضد حكومة الشرق برئاسة أسامة حماد، وذلك رغم الاستقرار الأمني في شرقي ليبيا، فالتحريض يحمل رسائل تسعى لتكريس الانقسام ومنع الوصول لدستور وانتخابات.
وبدأت حملات التصعيد من شخصيات بارزة مثل زياد بلعم، الذي كان مرتبطاً بجماعات إرهابية، إلى جانب رجال دين مؤثرين مثل الصادق الغرياني وعلي الصلابي، حيث وجهوا خطابات تحريضية لتأجيج الصراع، وحملت التطورات احتمالات سياسية متعددة، فهي تشكل مناورة سياسية خطرة لأنها تلعب على حالة الانقسام، وعلى عجز المبادرة الأممية في التوصل إلى الانتخابات، لكن مجرد الدعوة للحرب يمكن أن تقود لمسار يهدد مستقبل ليبيا.
الخلفيات والدوافع السياسية
تعيش ليبيا ومنذ عام 2014 انقساماً سياسياً حادا بين الشرق والغرب، حيث تسيطر حكومة عبد الحميد الدبيبة منتهية الولاية على طرابلس العاصمة والمناطق الغربية، بينما تستمر حكومة حماد المعينة من قبل مجلس النواب في بنغازي، وفشلت المحاولات الدولية إضافة للمبادرات المحلية في إنهاء هذا الانقسام من خلال الوصول إلى حوار السياسي شامل، فالوضع لا يزال معقداً بسبب المصالح الخارجية التي مازالت تدعم الأطراف في الغرب الليبي.
ويبدو أن الدعوات للحرب ضد الشرق تشكل جزءاً من إستراتيجية سياسية لتعطيل عملية توحيد ليبيا، وتكريس نفوذ غربي عبر التعامل مع أجندات التصعيد السياسي، شخصيات مثل زياد بلعم دعت صراحة إلى حمل السلاح ضد الشرق، زاعماً أن حكومة طرابلس يجب أن تتخذ إجراءات عسكرية “لاستعادة” المنطقة الشرقية، وهذه التصريحات تأتي في وقت يتزايد فيه الضغط الدولي لإجراء انتخابات وتوحيد المؤسسات الليبية، وهو ما يتعارض مع بعض الأطراف المستفيدة من استمرار الانقسام.
تناقض الاستقرار الأمني بين الشرق والغرب
إحدى المفارقات الواضحة في المشهد الليبي الحالي هي التباين بين الاستقرار الأمني في الشرق والفوضى المستمرة في الغرب، فبينما تشهد بنغازي ومدن الشرق انخفاضاً في معدلات الجريمة والاشتباكات المسلحة، تعاني طرابلس ومصراتة من صراعات داخلية بين الميليشيات، وهذا التناقض يدفع بعض الأطراف إلى تبني خطاب تصعيدي ضد الشرق، ربما بسبب الإحساس بأن النجاح الأمني هناك يهدد شرعية بعض القوى في الغرب.
عملياً، يُعتبر الصادق الغرياني وعلي الصلابي من أبرز الشخصيات التي لعبت دوراً في تأجيج الخطاب العدائي في ليبيا، فالغرياني، الذي شغل منصب مفتي ليبيا بعد 2011، أطلق العديد من الفتاوى التي تُبرر العنف ضد خصومه السياسيين، محذرا ًمن أي مصالحة مع الأطراف الموجودة في الشرق، كذلك، يُتهم الصلابي بتوفير غطاء ديني لدعوات المواجهة العسكرية، مستنداً إلى علاقاته مع تيارات الإسلام السياسي.
ومثل هذه التصريحات تزيد من حدة التوترات وتوفر مبررات عقائدية للعنف، ما يؤدي إلى مزيد من التصعيد والانقسام بين الليبيين، حيثيلعب توظيف الدين كأداة سياسية عاملاً رئيسياً في تأجيج الصراع، وهو ما يعقد أي جهود للمصالحة الوطنية.
التدخلات الخارجية وتأثيرها على التصعيد
لا يمكن فهم تصاعد الدعوات للحرب بمعزل عن التدخلات الإقليمية والدولية، فتركيا، على سبيل المثال، لديها مصالح استراتيجية في غرب ليبيا، حيث قدمت دعما عسكرياً لحكومة طرابلس وساهمت في تعزيز قوة بعض الميليشيات الإسلامية هناك، إضافة إلى ذلك، فإن بعض الفاعلين في الغرب الليبي يعتمدون على الدعم الخارجي لتعزيز موقفهم ضد الشرق، فبعض التقارير تشير إلى أن شخصيات مثل زياد بلعم تلقت تمويلاً خارجياً لدعم الفصائل المسلحة التي تحاول استعادة السيطرة على مدن الشرق،وهذا يعني أن استمرار الصراع لا يخدم فقط المصالح الداخلية لبعض الأطراف، بل أيضاً أجندات خارجية ترغب في إبقاء ليبيا منقسمة وضعيفة.
وفي حال تحولت هذه الدعوات إلى حرب فعلية، فإن ليبيا تدخل في مرحلة جديدة من الفوضى والعنف، ومن المتوقع أن تكون لهذه الحرب تداعيات كارثية، أنها ستشكل تعطيلاً للجهود لإجراء الانتخابات فأي تصعيد عسكري سيؤدي إلى تأجيل غير محدد للعملية الانتخابية، وسيبقي البلاد في حالة فراغ سياسي ويعزز نفوذ الجماعات الإرهابية، ففي ظل الفوضى ستجد تجد الجماعات المتطرفة مثل داعش وتنظيم القاعدة بيئة مناسبة لإعادة تنظيم صفوفها وشن هجمات جديدة.
وإن التوتر والتصعيد العسكري سيزيد الانقسام المجتمعي، فهو إضافة لتعقيد محاولات للمصالحة الوطنية؛ فإنه سيفاقم الأزمة الاقتصادية وسيؤثر على قطاع النفط الذي يشكل المصدر الرئيسي للدخل في ليبيا، مما يزيد من معاناة الشعب الليبي.
الحاجة إلى حلول سياسية شاملة
في ظل المعطيات المعقدة للمشهد السياسي الليبي فإن تحرك الأطراف الليبية لاحتواء الأزمة ومنع انزلاق البلاد إلى حرب جديدة يشكل تحدياً حقيقياً يبدأ بكبح الخطابات التحريضية القادمة من الغرب عبر القادة السياسيين ورجال الدين، وعليهم تحمل مسؤوليتهم في تهدئة الأوضاع، واستئناف المفاوضات بين الشرق والغرب بإشراف دولي للوصول إلى تسوية سياسية.
إن إجراء انتخابات شفافة وتفكيك الميليشيات يشكل السبيل الوحيد لضمان شرعية الحكومة القادمة وإنهاء الانقسام، فالسلام لن يتحقق دون إنهاء نفوذ الجماعات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة، فالدعوات للحرب في ليبيا ليست مجرد صراع داخلي، بل تعكس حسابات سياسية وأجندات خارجية تهدف إلى عرقلة توحيد البلاد.
وإن أي تصعيد عسكري سيكون له تداعيات كارثية على الشعب الليبي، ما يجعل البحث عن حلول سياسية سلمية ضرورة ملحة، وحدهم الليبيون قادرون على تقرير مصيرهم، بعيداً عن التحريض والتدخلات الخارجية التي لا تخدم سوى مصالح فئة ضيقة على حساب استقرار ليبيا ومستقبلها.
بقلم: نضال الخضري