كسرت الحرب الحالية كافة قواعد الصراع المعتادة منذ تأسيس إسرائيل، فالحرب الخاطفة التي تم اعتمادها، انتهت في 7 أكتوبر من العام الماضي وغاب معها مفهوم الردع والأمن الإقليمي الذي استندت إليه إسرائيل لعقود.
في كافة تفاصيل الحرب التي تقترب من عامها الأول تغيب المفاهيم الكلاسيكية للاشتباك، فالصراع الذي انطلق من جبهة غزة “المحدودة” جغرافيا حمل منذ اللحظات الأولى صراعا جيوسياسيا معقدا، حيث حشد الغرب أساطيله على سواحل شرقي المتوسط وذلك قبل أن تتدحرج الحرب ويصبح مداها من العراق إلى البحر الأحمر.
وبدأ الصراع يتوسع قبل أن تتغير قواعد الاشتباك لتشمل “حرب الاغتيالات” التي مارستها إسرائيل بفاعلية في لبنان وسورية وإيران.
نهاية مسار السلام
فإن الغطاء السياسي للحرب كان غامضا، فالمحور الرئيس لكل التحركات الدبلوماسية تركز على “المحتجزين الإسرائيليين” في وقت كانت غزة مسرحا لتدمير شامل، وفي نفس الوقت فإن دول جوار إسرائيل المعنية أساسا بأي تطور عسكري باتجاه الحرب الإقليمية لم تكن في دائرة التركيز السياسي.
وتم التفاوض عبر دولة قطر كوسيط يتحرك بحكم علاقته مع حماس، وليس لارتباطه بعمق الصراع الدائر، بينما بقيت باقي الدول العربية خارج إطار التأثير المباشر حيث لم تتحرك ككتلة وازنة للضغط من أجل وقف الحرب.
ووفق الصورة الأولية فإن مسألة الصراع الحالي الذي بدأ في غزة تباين بشكل واضح مع أشكال أي معركة سابقة في غزة بأمرين أساسيين:
- الأولى نوعية المعركة التي أثارت ذعر العالم ودفعت الولايات المتحدة إلى الدفع بحاملة طائرات وقطع بحرية باتجاه سواحل لبنان وإسرائيل، فرغم الفارق بموازين القوى بين حماس وإسرائيل، لكن الترتيب الأمريكي كان مختلفا خصوصا مع أهداف الحكومة الإسرائيلية المعلنة بالقضاء على حماس.
ورغم حجم الاختراق الذي حدث في 7 أكتوبر من العام الماضي في غزة، لكنه ظهر كمؤشر على فرض إرادة سياسية غير محسوبة من قبل حماس تجاه إسرائيل، واعتبرته الولايات المتحدة مقدمة لتدخل لاحق يمكن أن يظهر عبر إيران أو غيرها من القوى المناهضة لإسرائيل، وفي نفس الوقت فرصة لإحداث تغيير جذري في معادلة الأمن الإقليمي عبر تكريس توازن سياسي يستند إلى الاتفاقات الإبراهيمية التي بدأها الرئيس السابق دونالد ترامب، فالاستعراض العسكري الأمريكي في شرقي المتوسط كان يمثل تحولا نحو فرض واقع سياسي عبر التلويح بالقوة.
- الأمر الثاني مرتبط بإسرائيل التي اعتبرت أن العملية العسكرية في السابع من أكتوبر اختبارا حقيقيا لمسار سياسي طويل بدأ في أوسلو عام 1993، وبقي متعثرا طوال العقود السابقة وأنتج الواقع العسكري الحالي في غزة.
وتركز التحليلات السياسية منذ بداية الحرب على رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في إطالة أمد المعارك لتحقيق مكاسب سياسية، وهذا الأمر صحيح لكن عمق ما حدث هو في انهيار مفاهيم السلام بين العرب وإسرائيل.
وتنظر كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على اتفاقيات أوسلو أو عمليات التطبيع أو حتى الاتفاقيات الإبراهيمية، على أنها حالة سياسية تواجه واقعا إقليميا أوسع سواء عبر إيران أو حزب الله أو حتى حركة أنصار الله في اليمن، هذا إضافة إلى سورية التي رغم الحرب بقيت جزء من محور عام يرفض الشكل السياسي الذي تحاول الولايات المتحدة وإسرائيل تركيبه في المنطقة.
عوامل صراع غير تقليدية
بعد عام من المعارك وخلال جلسة مجلس الأمن الدولي، وجه المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسون، تحذيرا شديد اللهجة حول احتمالية نشوب حرب إقليمية في الشرق الأوسط، وأعرب عن قلقه العميق إزاء تصاعد العنف محذرا من تدهور الوضع إلى نزاع واسع يشمل دولا مجاورة.
ورغم أن سورية لم تدخل الحرب لكنها شكلت مسرحا مختلفا لأمرين: الأول عبور الصواريخ التي أطلقتها إيران بعد استهداف قنصليتها في دمشق، والثاني عمليات الاغتيال التي طالت العديد من المستشارين الإيرانيين على أرضها، فجغرافيتها عمليا كانت مسرحا عسكريا رغم عدم التماس المباشر على جبهة الجولان، هذا إضافة إلى اعتداءات إسرائيلية متكررة على قواعد سورية بذريعة التواجد الإيراني.
وما يمكن قراءته سواء عبر تصريحات بيدرسون أو من خلال مسار الحرب أن الجغرافية الخاصة بالمعركة لم تعد وفق صيغتها الاعتيادية كتماس مباشر بين طرفين، حيث أصبح البحر الأحمر جزءا من المعركة، والمجالات الجوية ما بين إسرائيل وإيران أيضا ضمن مساحة الحرب القائمة، وهذا التوسع لم يكن استهدافا لحماس من قبل “إسرائيل” بل محاولة جعل الحرب تستهدف ظاهرة إقليمية تُعرف بمصطلح “محور المقاومة” أو “وحدة الجبهات”.
وترى حكومة “إسرائيل”، والولايات المتحدة أيضا، أن أي تحول في الأمن الإقليمي لن يتم دون تفكيك بعض البنى التي ظهرت منذ عام 1980 بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
وخلال حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله كانت مستشارة الأمن القومي السابقة كوندليزا رايس تتحدث عن شرق أوسط جديد يظهر على إيقاع الحرب، وهذا الأمر كان مؤشرا على النظرة الأوسع لأي حرب يمكن أن تندلع، فهي حروب لا تخوضها الدول بالضرورة، وفي نفس الوقت تبدو مجردة من أي غطاء سياسي عربي بالدرجة الأولى كما حدث في الحروب السابقة سواء في عام 1967 أو 1973، فهي ظواهر تعاكس التيار السياسي العام.
وتعاملت إسرائيل مع كافة المعطيات بعد 7 أكتوبر بشكل مختلف، فهي بدأت معركتها على أساس تهديد يتجاوز غزة، وحاولت إنهاء أي اعتبار لمسألة القوة الصاروخية لحزب الله أو حماس عبر الدفع نحو حرب إقليمية.
وتوسعت الاغتيالات الإسرائيلية التي وصلت لإيران، إلى جانب إطالتها أمد المعارك لأول مرة في تاريخها متجاهلة أي عواقب اقتصادية أو إنهاك لجبهتها الداخلية، وصولا إلى إشغال حزب الله بحروب الاستخبارات التي تجلت باستهداف أجهزة الاتصالات اللاسلكية.
وختاماً، فإن الحرب الإقليمية بدأت في 7 أكتوبر ولكن بطريقة غير تقليدية، ومن المستبعد أن تدخل الدول في المنطقة بمواجهة مباشرة بهدف السيطرة على الجغرافية، فعندما نتحدث عن معارك ما بين باب المندب في البحر الأحمر وسواحل المتوسط على أقل تقدير فنحن أمام شكل من أشكال الحرب الإقليمية، وعندما تصبح الاغتيالات جماعية فإننا نتعامل مع حالة خاصة من الحروب تريد كسر إرادة الخصم والسيطرة على الجغرافية عبر تغيير قواعد الصراع.
بقلم مازن بلال
الولايات المتحدة تستأنف الخدمات القنصلية في ليبيا بعد عشر سنوات من التوقف