عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لم تنعش فقط سجالات واشنطن الداخلية، بل أعادت فتح ملف بقي معلقا لسنوات مرتبط بالتعامل الأميركي مع جماعة الإخوان المسلمين، وفروعها المتعددة في المنطقة.
في 24 نوفمبر 2025، وقع ترامب أمرا تنفيذيا يوجه وزارة الخارجية والخزانة إلى تصنيف فروع محددة من الجماعة في مصر ولبنان والأردن كـ”منظمات إرهابية أجنبية” و”كيانات إرهابية عالمية خاصة” مع مهلة لإعداد قوائم تفصيلية ومسوغات قانونية للتجفيف المالي والملاحقات القضائية.

لا تشمل هذه الخطوة حتى الآن الفرع الليبي مباشرة؛ لكن توقيتها وسياقها الإقليمي يطرحان سؤالا، فهل تتحول ليبيا إلى ساحة جديدة لاختبار هذه السياسة، أم تبقى خارج “الدفعة الأولى” من الفروع المستهدفة، مع الاكتفاء بضغط ناعم على تيارٍ يشكل أحد أعمدة السلطة في غرب البلاد؟
الإخوان في ليبيا: من “العدالة والبناء” إلى “الحزب الديمقراطي”
تأسس فرع الإخوان في ليبيا أواخر الأربعينيات كامتداد للتنظيم الأم في مصر، واستقر بداية في بنغازي وشرق البلاد قبل أن يتعرض لملاحقات نظام القذافي، وبعد أحداث 2011، انتقلت الجماعة من العمل السري إلى العلن وأسست حزب العدالة والبناء بمارس 2012، بقيادة محمد صوان، بوصفه الذراع السياسي للإخوان في ليبيا.
لكن مع تراكم الخسائر الانتخابية وتآكل الشعبية، دخلت الجماعة في عملية “مكياج سياسي” على مرحلتين:
- إعادة هيكلة داخلية وتغيير في القيادة، مع انتقال رئاسة الجماعة في 2021 إلى عماد البناني.

- إعادة تسمية الذراع الحزبي؛ حيث قررت الجماعة في أكتوبر 2021 تغيير اسم حزب العدالة والبناء إلى “الحزب الديمقراطي”، في خطوة بدت كمحاولة للخروج من عباءة “الإسلام السياسي” الصريحة نحو خطاب مدني أكثر مرونة.
رغم التعديلات الشكلية، ما زالت غالبية التقارير البحثية والمنابر المتخصصة تصنّف الحزب الجديد بوصفه الامتداد التنظيمي والسياسي للإخوان في ليبيا، حتى لو جرى تسويق خطاب جديد يتحدث عن “الدولة المدنية” و”التداول السلمي على السلطة” و”العدالة الاجتماعية”.
نفوذ الإخوان داخل بنية السلطة في الغرب الليبي
لا يمكن فهم أثر القرار الأميركي من دون رسم خريطة النفوذ الإخواني، أو المحسوب على الإخوان، داخل مؤسسات غرب ليبيا:
- المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية
- شخصيات مثل عبد الله اللافي في المجلس الرئاسي يُنظر إليها، في جزء من الأدبيات السياسية الليبية، بوصفها قريبة من التيار الإسلامي أو متقاطعة معه في دوائر النفوذ والتمثيل الاجتماعي.
- في حكومة الوحدة، يُعتبر وليد اللافي (وزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية) من الوجوه الأكثر قربا من دوائر الإخوان والحزب الديمقراطي، بحكم شبكة تحالفات تمتد إلى طرابلس ومصراتة، وحضور إعلامي/سياسي لافت.
- المجلس الأعلى للدولة
المجلس الأعلى للدولة، الذي نشأ في الأصل من بقايا المؤتمر الوطني العام، يضم كتلة مؤثرة من الأعضاء المحسوبين على الإسلاميين، ومنهم الإخوان، ما يمنح الجماعة وحلفاءها قدرة على تعطيل أو تسهيل التسويات السياسية ومشاريع القوانين الانتخابية والدستورية. - التحالفات المسلحة في طرابلس ومصراتة
لا يملك الإخوان في ليبيا ميليشيا موحّدة تحمل اسم الجماعة، لكنهم حاضرون عبر تحالفات شخصية وسياسية مع كتائب مسلحة في طرابلس ومصراتة والزاوية، وبعضها كان جزءا من شبكات “درع ليبيا” سابقا أو من المجموعات التي دعمت حكومة الوفاق الوطني في حربها ضد الشرق.
هذا التوزع يمنح الجماعة قوة تعطيل داخل مؤسسات القرار، أكثر مما يمنحها قدرة على فرض حسم سياسي أو عسكري منفرد، وهذا الواقع يعقد استهداف واشنطن بشكل مباشر للإخوان، ما يعني عمليا المساس بجزء من بنية الحكم في طرابلس.
كيف تنظر واشنطن إلى ليبيا ؟
الأولوية الأميركية في ليبيا لم تكن يوما شكل النظام السياسي الداخلي، فهي مهتمة بأمور ثلاث:
- مكافحة الإرهاب (داعش، القاعدة، وشبكات السلفية الجهادية في الصحراء الكبرى).

- ضمان تدفق مستقر للنفط ومنع تحوّل ليبيا إلى ساحة مفتوحة أمام روسيا.
- احتواء موجات الهجرة غير النظامية نحو أوروبا ومنع انهيار أمني على الضفة الجنوبية للمتوسط.
تعاملت الإدارات الأميركية المتعاقبة في ظل الاعتبارات السابقة، مع جميع الفاعلين الليبيين من حكومة طرابلس إلى المؤسسات في الشرق وبدرجات متفاوتة من البراغماتية، مع تفضيل واضح لبقاء ليبيا موحدة اسميا، وعدم السماح بتحوّلها إلى “سوريا ثانية”، وقرار ترامب بشأن الإخوان يضيف طبقة أيديولوجية – أمنية فوق هذه الحسابات، لكنه لا يلغيها.
ثلاثة سيناريوهات محتملة لتأثير التصنيف على الإخوان في ليبيا
يطرح قرار ترامب المحتمل بشأن الإخوان ثلاثة مسارات تؤثر مباشرة على ليبيا، فالأول هو الضغط الناعم، حيث تُستثنى ليبيا من القائمة المباشرة، مع استخدام واشنطن للأمر التنفيذي لتشديد التدقيق المالي على الأفراد والجهات القريبة من الإخوان، ودفع حكومة طرابلس إلى تقليص نفوذهم السياسي.
في هذا السيناريو يضيق هامش الحزب الديمقراطي، ويصعد التكونوقراط داخل مؤسسات الغرب الليبي، بينما تتقارب واشنطن مع قوى مدينية غير إسلامية دون تفجير المشهد.
المسار الثاني هو العقوبات الموجّهة عبر استهداف أسماء وشبكات مالية مرتبطة بالتنظيم، ما يربك الحزب الديمقراطي ويدفع طرابلس لإعادة هندسة تحالفاتها، مع تراجع تدريجي للدعم التركي–القطري.
أما المسار الثالث فهو التوسيع الكامل بإدراج الفرع الليبي، ما يحوّل جزءا من السلطة في طرابلس إلى شريك محظور أميركيا، ويعزز خطاب الشرق، ويحرج تركيا وقطر، ويقلّص خيارات حكومة الوحدة، ويدفع واشنطن للتعامل مع عدة شركاء بدل الاعتماد على طرابلس وحدها.
وبمكن رصد عدد من المؤشرات التي ستكشف أيا من السيناريوهات السابقة سيكون أرجح:
- طبيعة القائمة التفصيلية التي ستخرج عن الخارجية والخزانة خلال مهلة الـ30–75 يوما المنصوص عليها في الأمر التنفيذي، فإذا بقيت محصورة في مصر ولبنان والأردن، فليبيا في منطقة ارمادية؛ أما إذا ظهرت إشارات إلى “كيانات أو أفراد في دول أخرى”، فستدخل طرابلس عمليا في حقل الألغام.
- طريقة تعاطي حكومة الوحدة الوطنية مع الحزب الديمقراطي فهل ستُدفع أو ستختار تقليص حصته داخل الحكومة والمجالس والبلديات، في رسالة تهدئة مبكرة لواشنطن؟ أم ستتبنّى خطابا دفاعيا عن “التعددية السياسية” وتتمسك بإشراكه، ما يفتح الباب أمام توتر مكتوم مع الأميركيين؟

- سلوك تركيا وقطر في الساحة الليبية خلال الأشهر المقبلة، فاستمرار الدعم السياسي والاقتصادي للحلفاء الإسلاميين – ولو بواجهات جديدة يعني أن أنقرة والدوحة تراهنان على أن القرار الأميركي سيبقى محدود النطاق، أما البدء في إعادة تدوير الوجوه والتحالفات داخل طرابلس لصالح تكنوقراط أقل ارتباطا بالإخوان، فسيكون إشارة إلى توقعهما توسّعا لاحقا في الاستهداف الأميركي.
- مستوى الحضور الروسي المتجدد في ليبيا، فكلما قوي نفوذ موسكو زادت حاجة واشنطن إلى شريك “مقبول” في الغرب، ما يدفعها إلى التعامل مع الإخوان بمنطق “الخصم الذي لا يمكن تجاوزه”، فيكتفون بضبطهم لا إسقاطهم.
بين إعادة ضبط الأداة وإعادة هندسة المشهد
في ضوء المعطيات الحالية، يبدو أن قرار ترامب بشأن الإخوان يفتح باباً واسعا لاحتمالات متعددة في ليبيا، أكثر مما يقدّم إجابة حاسمة، فالجماعة، عبر الحزب الديمقراطي وحلفائه، ليست لاعبا هامشيا يمكن الاستغناء عنه بسهولة، ولا قوة مهيمنة يمكنها فرض إرادتها منفردة، فهي جزء من نسيج السلطة في طرابلس ومصراتة، ومن المرجح أن تتجه واشنطن في المرحلة الأولى إلى “إعادة ضبط” الإخوان في ليبيا من خلال التضييق على التمويل، ومراقبة للأفراد، وإعادة توزيع لنسب نفوذهم داخل مؤسسات الحكم، أكثر من السعي إلى اقتلاعهم بالكامل.

لكن إذا ترافق ذلك مع تعنّت من جانب النخب الإسلامية في طرابلس، وتشدد متزايد من محور مصر – الإمارات – السعودية، فستجد ليبيا نفسها أمام هندسة جديدة للعلاقات الليبية – الأميركية، فإما بنية سلطة أوسع وأقل إخوانية في الغرب، أو عودة إلى مربّع الصراع المفتوح الذي تدفع ثمنه أولا وأخيرا المدن والمجتمعات الليبية الممزقة بين المحاور.
بقلم: مازن بلال
موقع سويدي يكشف تفاصيل اتفاقية تمركز القوات التركية في ليبيا



