يحكم العلاقات بين الجزائر وفرنسا تاريخ معقد يتداخل ما بين الاستعمار وتضارب المصالح، وتتشابك الأبعاد التاريخية والسياسية لتطرح نموذجاً خاصاً من العلاقة ما بين باريس وأحد أعرق مستعمراتها السابقة.
بعد أكثر من ستة عقود من استقلال الجزائر عن فرنسا لا تزال الذاكرة الجماعية الجزائرية مغمورة بتداعيات الاستعمار الفرنسي، فهو استمر من عام 1830 حتى عام 1962، وما تشهده العلاقات مؤخراً من توترات حادة تشكل جزءا ًمن سياق توترات طويلة، ولكن الواقع الحالي يحمل معه شكلا ًمن التوتر غير مسبوق.
وبدأت الأزمة الحالية في يوليو 2023، وذلك مع قرار الجزائر استدعاء سفيرها في باريس بعد اعتراف السلطات الفرنسية بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وتطورت الأزمة بشكل حاد حيث ظهرت تقارير تتحدث عن إمكانية قطع العلاقات بين البلدين بسبب اتهامات لفرنسا بدعم الجماعات الإرهابية في الجزائر.
من الاستعمار إلى التوترات الحديثة
ظاهرة التوتر بين فرنسا والجزائر ليست جديدة فهي تأخذ عمقاً ضمن تاريخ الاستعمار الفرنسي الذي امتد لأكثر من 130 عاماً، ورغم استقلال الجزائر في عام 1962 بعد حرب تحرير عنيفة قادتها جبهة التحرير الوطني الجزائرية، لكن العنف الذي رافق مرحلة الاستعمار وحرب التحرير تظهر في خلفية معظم الأزمات بين البلدين.
عمليا، اتخذت العلاقات بين الجزائر وفرنسا منحى خاصاًبعد الاستقلال، فمسألة اعتراف فرنسا بجرائمها الاستعمارية بقي قضية محورية، حيث رفضت فرنسا تقديم اعتذار رسمي أو تعويضات عن تلك الفترة.
ويعتبر الجزائريون هذا الرفض تجاهلاً لآلامهم التاريخية، فعودة الثقة بين البلدين باتت مربوطة بمثل هذا الاعتراف الذي يعبر عن حسن النوايا المستقبلية، وبقيت قضايا حقبة الاستعمار حجر عثرة في العلاقات بين البلدين، إلا أن الأزمة الأخيرة تجاوزت الخلافات التقليدية لتنتقل إلى توترات سياسية ودبلوماسية جديدة.
نقطة التحول..الخلاف حول الصحراء الغربية
في يوليو 2023، أقدمت الحكومة الفرنسية على خطوة استفزت الجزائر، عندما أصدرت بياناً رسمياً يعترف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وشكل هذا التحول في الموقف الفرنسي صدمة.
والموقف الفرنسي بالنسبة للجزائريين يتم النظر إليه على أنه يمس استراتيجية الجزائر في علاقاتها الإقليمية، فالصحراء الغربية قضية حساسة بالنسبة للجزائر التي دافعت عن أحقية الصحراويين في تقرير مصيرهم، ودعمتهم سياسياً وعسكرياً ضد المغرب منذ السبعينات، ومن هذا الإرث السياسي للجزائر فإن ردة فعلها كانت حاسمة، حيث قررت الحكومة استدعاء سفيرها في باريس احتجاجاً على مواقف الإليزيه، ورغم أن فرنسا تحاول تبرير مواقفها في إطار الدبلوماسية الواقعية، فإن الجزائر تعتبر هذا الاعتراف مساساً بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
لكن تصاعد قضية الصحراء الغربية كانت نافذة لتوترات جديدة بين الجزائر وفرنسا، على الأخص بعد ظهور ادعاءات حول دعم فرنسا لجماعات إرهابية في الجزائر،وفي هذه المسألة برز اسم محمد أمين عيسىوي، وهو مقاتل سابق في تنظيم داعش، حيث كشف عن محاولة جهاز الاستخبارات الفرنسي تجنيده في عام 2023.
وادعى عيسىوي الذي انضم إلى داعش في سوريا عام 2014، أن الاستخبارات الفرنسية طلبت منه التعاون لجمع معلومات عن الإسلاميين والشبكات التي تدير عمليات التهريب والهجرة غير الشرعية في الجزائر، وحسب روايته فإن هدف التجنيد هو إنشاء شبكة استخباراتية من داخل الجزائر لجمع المعلومات المتعلقة بالنشاطات التي تؤثر على الأمن الفرنسي، وأثارت هذه الادعاءات استنكاراً واسعاً في الجزائر، وتم النظر إليه كدليل جديد على التدخلات الفرنسية في الشؤون الداخلية للبلاد.
وعيسىوي ليس الوحيد الذي اتهم فرنسا بدعم جماعات مناهضة للحكومة الجزائرية، ففي العام الماضي أُثيرت قضية مساعدة السلطات الفرنسية للناشطة الانفصالية، أميرة بوراوي، في مغادرة الجزائر بطريقة سرية، وفجر موجة من الغضب في الجزائر التي تعتبر هذا النوع من الدعم خرقاً لسيادتها، وشكلت هذه الحوادث جزءاً من سلسلة اتهامات التي ترى الجزائر فيها سعي فرنسي لزعزعة استقرارها الداخلي.
رد جزائري.. استدعاء السفير والتصعيد المحتمل
في رد مباشر على ادعاءات عيسىوي، استدعت الجزائر السفير الفرنسي في باريس، ستيفان روماتي، للتعبير عن رفضها الشديد لهذه التصرفات، وطالبت بتوضيحات حول ما أثير من اتهامات، بينما نفت السفارة الفرنسية هذه الاتهامات، مؤكدة أن كل ما يقال حول تعاونها مع الجماعات الإرهابية هو مجرد افتراءات.
ولكن النفي الفرنسي لم يحمل أي تحول في السياسات الجزائرية التي اعتبرت أن هذه الحوادث جزء من سياسة فرنسية مدروسة لخلق حالة من الفوضى في البلاد، وتزايدت المخاوف من أن يؤدي التوتر إلى طرد السفير الفرنسي من الجزائر، وذلك ضمن تصعيد غير مسبوق في العلاقات الثنائية.
الجزائر والتوازن بين المصالح
على الرغم من توتر العلاقات مع فرنسا، إلا أن الجزائر لم تقطع علاقاتها مع الغرب بشكل عام، فهي تسعى لتعزيز علاقاتها مع دول غربية أخرى، خاصة الولايات المتحدة، فخلافاتها مع فرنسا تدفعها لفتح تعاون مع القوى الغربية في ملفات مثل مكافحة الإرهاب وتعزيز الاستقرار في منطقة الساحل، فالحساسيات السياسية مع فرنسا يضع أمام الجزائر ضرورة التعاون مع قوى غربية أخرى لتحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية، حيث عملت على تعزيز علاقاتها مع واشنطن.
الأفق المستقبلي: هل نصل إلى القطيعة؟
من المؤكد أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا لن تعود إلى طبيعتها قريباً، فالتوترات الحالية حول الصحراء الغربية ودعم الجماعات الإرهابية تمثل نقاط خلافية عميقة، وإذا استمرت فرنسا في سياستها الحالية، فمن المحتمل أن تزداد الضغوط على الحكومة الجزائرية لاتخاذ إجراءات أكثر حدة، مثل طرد السفير الفرنسي أو قطع العلاقات الدبلوماسية.
لكن أي قطيعة مع فرنسا لن تقلل من أهمية الجزائر كلاعب سياسي أساسي في المنطقة، وهي لا تبدي أي اتجاه سياسي لقطع علاقاتها مع القوى الغربية بشكل عام، فالحفاظ على علاقات مستقرة مع دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ربما تراه أفضل إستراتيجية بالنسبة للجزائر في هذه المرحلة، خاصة في ضوء التحديات الأمنية التي تواجهها في منطقة الساحل.
ودخلت العلاقات بين الجزائر وفرنسا مرحلة من التوتر غير مسبوقة نتيجة للعديد من القضايا الخلافية، ابتداء من الاعتراف الفرنسي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية وصولاً إلى الاتهامات الفرنسية بدعم الجماعات الإرهابية في الجزائر.
وفي الوقت الذي تبقى فرنسا شريكاً في العديد من الملفات الدولية، فإن الجزائر تعمل على التوازن بين مصالحها الوطنية وسياستها الخارجية، ما يجعلها تركز على بناء علاقات مع قوى غربية أخرى بعيداً عن باريس، في ظل هذا الوضع، يبدو أن الأفق الدبلوماسي بين البلدين يبقى غامضاً، مع إمكانية تصعيد التوترات إلى مستويات تؤدي إلى قطيعة كاملة في العلاقات الثنائية.
بقلم: نضال الخضري
مأزق أوكرانيا: صراع من أجل السلطة وانتقادات غربية