مع قبول الدبلوماسي السنغالي عبد الله باتيلي مهمة وساطة جديدة في منطقة الساحل الإفريقي، فإن ملامح إخفاقه في قيادة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا تبقى حاضرة في مساحة عمله الجديد.
وتترافق مهمة باتيلي الجديدة مع اضطرابات سياسية وأمنية واقتصادية متزايدة في منطقة الساحل الإفريقي، وتأتي أيضاً في محاولة خلق دبلوماسية متعددة الأطراف في حل النزاعات الإقليمية المعقدة، لا تعتمد فقط على إجراءات التعامل بشكل مباشر مع أزمات الساحل، إنما عبر إيجاد سياسات مرنة تبدأ بتسهيل الحوار بين دول الساحل.
ومن المتوقع أن يقوم باتيلي بهذه المهمة وبشكل يسهل إعادة استقرار العلاقات بين دول المنطقة، ولكن نجاحه يبقى مرهوناً بقدرته على تقديم حلول متوازنة لجميع الأطراف، وهو أمر لم يستطع تحقيقه في مهمته السابقة لحل الأزمة الليبية.
مهمة باتيلي ومنظمة “إيكواس”
وسيواجه باتيلي التعثر الذي وقعت به منظمة “إيكواس” في سياساتها الحالية تجاه دول الساحل، فالمنظمة التي تأسست كهيئة إقليمية لتعزيز التعاون الاقتصادي والأمني بين دول غرب إفريقيا، شهدت تحديات كبيرة بعد انسحاب مالي، النيجر، وبوركينا فاسو من عضويتها وتشكيلهم لـ”كونفدرالية الساحل الإفريقي”.
وتأتي هذه الأحداث نتيجة لتوترات سياسية وأمنية مختلفة، كما جاءت مع زيادة نشاط الجماعات المسلحة في المنطقة التي قامت وبشكل متكرر بهجمات إرهابية، وكشف هذا التحدي الأمني عدم قدرة المنظمة على التعامل بشكل فعال لتعزيز الاستقرار السياسي، ومثل انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر ذروة الأزمة التي عصفت بالمنظمة.
ونجحت منظمة “إيكواس” في الماضي في تسوية بعض النزاعات والصراعات الداخلية في دول مثل ليبيريا وسيراليون، لكنها تعاملت بشكل مختلف مع الانقلابات العسكرية في الدول الثلاثة عبر إجراءات قاسية تضمنت فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية، وهذا الأمر لم يحقق النجاح ودفع تلك الدول للانسحاب من المنظمة.
ومثلت سياسات “إيكواس” إخفاقاً زاد من التوترات السياسية وخلق تصعيداً غير مسبوق داخل دول المنظمة، ما دفعها لإعادة تقييم استراتيجيتها وطرح مبادرة لعودة الدول المنسحبة إلى المنظمة من خلال دبلوماسية جديدة، وسيقوم باتيلي بقيادة هذه المبادرة رغم أن خيارات مالي والنيجر وبوركينا فاسو ابتعدت كثيراً عن سياسات “إيكواس”، وتبنت اتجاهاً مختلفاً من خلال “كونفدرالية الساحل الإفريقي”.
باتيلي والسياسة الدولية في إفريقيا
وتبدأ الشكوك في نجاح مهمة باتيلي من التحديات التي سيواجهها نتيجة التدخلات في دول الساحل، فهناك مواجهة حقيقية على الصعيد السياسي على الأقل بين تلك الدول والتدخلات الغربية.
والملاحظ أن “إيكواس” لم تستطع الحد من التدخلات الدولية، ولم تتخذ موقفاً واضحاُ من السياسات الغربية التي تدخلت في الشؤون الإفريقية بشكل مباشر وتحت حجج مختلفة، فمهمة باتيلي الجديدة ستقف أمام ما خلفته السياسة الفرنسية التي تراجع نفوذها بشكل واضح، واضطرت للانسحابات المتتالية لقواتها من المنطقة.
وفي وقت تتصاعد الدعوات لإنهاء الوجود الفرنسي بالكامل، فالتواجد الفرنسي في المنطقة والمهمات التي نفذها، مثل عمليات “سيرفال” و”برخان”، أثر في التحول الذي ظهر في دول الساحل الإفريقي، ففرنسا لم تفشل فقط في تحقيق الأمن والاستقرار، بل أثارت أيضا استياءً كبيراً بين السكان المحليين بسبب التعامل الذي اتخذ شكلا ًاستعمارياً.
واتبعت فرنسا سياسات تجاهلت الديناميكيات المحلية وخصوصيات الثقافات الإفريقية المختلفة، ما زاد من تعقيد الوضع، فمنطقة الساحل تتألف من 7 دول، تمتد من السنغال إلى البحر الأحمر، ولكل منها خصوصياتها ولغتها وتنوعها العرقي، وبالتالي لا يمكننا التعامل معها وكأنها كتلة واحدة.
ولم تتعلم فرنسا من دروس الحرب في ليبيا أو أفغانستان، وغيرها من الحروب التي بدأت باسم مكافحة الإرهاب، وأدت في النهاية إلى كوارث حقيقية أضعفت الدول ونهبت خيراتها،وبالتأكيد فإن مهمة باتيلي الجديدة ستكون مطالبة بتبديد مخاوف تلك الدول تجاه السياسات الغربية الموجودة بقوة داخل منظمة “إيكواس”.
وتراجع النفوذ الفرنسي دفع الولايات المتحدة إلى تعزيز وجودها في منطقة الساحل، حيث ركزت واشنطن على إبقاء قواعدها العسكرية في النيجر، وفرض واقع عسكري خاص على دول الساحل بحجج مكافحة الإرهاب، لكنها كانت تريد توسيع دورها ليس فقط عسكريا بل أيضاً عبر قيادة الجهود الدولية في المنطقة، على الأخص أن دول الساحل باتت مقتنعة بأن الاعتماد على روسيا والصين هو الخيار الأفضل، حيث ليس للدولتين تاريخ استعماري أو قواعد عسكرية في القارة الإفريقية، كما حصلت إفريقيا على مساعدات مالية وفنية مجانية بملايين الدولارات، وتلقى عشرات الآلاف من الطلاب الأفارقة تعليمهم العالي في الجامعات الروسية.
وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، ومع بدء انهيار النظام الإمبراطوري الأوروبي، شهد العالم صعود حركات التحرر الوطني في إفريقيا، وشهدت إفريقيا في تلك الحقبة علاقات بناءة مع موسكو بدأت مع ليبيريا ومصر وإثيوبيا، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، توسع الدعم الروسي لحركات التحرر الإفريقية، وأسست علاقات قوية مع دول مثل غانا، ليبيا، السودان، المغرب، وتونس.
وخلال “عام إفريقيا” في 1960، نالت 17 دولة إفريقية استقلالها، وأصبح الاتحاد السوفيتي لاعباً رئيسياً في القارة، داعماً لمصر والجزائر في شمال إفريقيا، وإثيوبيا وتنزانيا في الشرق، وحتى في وسط وغرب إفريقيا.
ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين، عززت روسيا حضورها السياسي والاقتصادي من خلال الاستثمار في الموارد الطبيعية والبنية التحتية في دول مثل غينيا، نيجيريا، وأنغولا، وجاءت القمم الروسية-الإفريقية في عامي 2019 و2023 لتؤكد على هذه الاستراتيجية، مشددةً على أهمية إفريقيا في السياسة الروسية والسعي لنظام عالمي متعدد الأقطاب يعتمد على التعاون المتبادل واحترام السيادة والحياد وعدم التدخل بالشؤون الداخلية.
وهذا التباين في تعامل الدول مع إفريقيا و الساحل الأفريقي تحديدا سيعقد التوازن الجديد على المستوى الدولي من مهمة باتيلي، لأن للولايات المتحدة سياسات ستعاكس بالتأكيد حالة التوافق الإفريقي خارج إطار المصلحة الأمريكية.
شكوك حول مهمة باتيلي
واجهت منظمة “إيكواس” انتقادات دائمة حول تبنيها الكامل لسياسات غربية، ومهمة باتيلي ليست بعيدة عن هذا الأمر، حيث تبدو محاولة لاستيعاب التحولات السياسية التي ظهرت في دول الساحل الإفريقية، ومحاولة لمحاصرة تأثيراتها سياسياً على الأقل بعد أن فشلت الضغوط عليها، وتولي باتيلي مهمته الجديدة في الساحل، يعيد السيناريو الليبي إلى واجهة الحدث، حيث كانت مهمته تتعامل مع التدخلات الخارجية وتسعى لرسم توازنات بين الأدوار الغربية والحل السياسي.
ويعيش الساحل الإفريقي تحولات مماثلة، حيث يحاول الغرب تعزيز نفوذه في منطقة غنية بالموارد، وكسر أي احتمالات لدول الساحل لرسم سياسات جديدة تقف في وجه النفوذ الغربي.
وتحمل مهمة عبد الله باتيلي في الساحل أبعاداً تتجاوز الإطار الدبلوماسي لحسن النوايا التي تطرحها المبادرة بشأن الحوار، لأن نجاحها مرتبط بعوامل دولية ونفوذ غربي أوسع داخل كافة دول منظمة “إيكواس”، والدروس المستفادة من مهمة باتيلي في ليبيا تؤكد الشكوك بقدرته على إتمام مهمته لأنها في النهاية محاولة لحد من خيارات دول الساحل في مواجهة الأدوار الغربية في القارة الإفريقية عموماً.
بقلم نضال الخضري
الوضع السياسي الليبي يلقي بظلاله على التسوية المالية مع تونس