27 ديسمبر 2024

تُعد المحادثة الهاتفية بين معمر القذافي وتوني بلير في فبراير 2011 حدثاً ذا بُعد جيوستراتيجي، إذ تعكس توازنات القوى الدولية وتوجهاتها نحو منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

طرح الحديث الهاتفي طبيعة الصدام في المفاهيم التي يرى فيها الطرفان شكل وتداعيات الحدث الليبي، فرغم أن ليبيا لم تكن بداية ما سُمي “الربيع العربي”، حيث سبقتها مصر وتونس، لكنها شكلت نقطة ارتكاز لإعادة فرض القوة في العلاقات الدولية، وذلك استنادا لقرار مجلس الأمن رقم 1973 بتاريخ 17 مارس 2011، الذي دعا إلى فرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا واتخاذ “كافة التدابير اللازمة” لحماية المدنيين والمناطق المدنية المهددة بالهجوم، ورغم أن محادثة بلير مع القذافي جرت قبل أقل من شهر عن صدور القرار (25 من فبراير 2011)، لكنها كانت ضمن المناخ الدولي الذي أراد التعامل مع تداعيات الأحداث الليبية لإحداث تحولات جيوستراتيجية في النظام الدولي.

وعكس بلير خلال المحادثة التصور المباشر لإنهاء الحدث الليبي عبر تنحي القذافي، وهو حل يحاول عدم النظر إلى التعقيدات السياسية في الشمال الإفريقي عموما، ولا يبحث عن “اليوم التالي” لعملية التنحي، فيما رأىالقذافي “لعبة دولية” في كل التطورات التي تمر بها بلاده، فهو نفى الاحتجاجات كونها حملت معها نمطا يتجاوز أي حراك سلمي، وترافقت مع حملة إعلامية واسعة لا تحمل في مضمونها أبعادا سياسية واضحة، إنما رسمت ملامح لحالة تطرف ظهرت بشكل علني وسريع وتطورت لتأخد أبعادا “جهادية” معلنة.

“بلير” والوساطة المبهمة:

لم يكن توني بلير رئيس وزراء اعتيادي في بريطاني حيث كان داعماً قوياً للتدخل الإنساني، وشارك في جهود حلف شمال الأطلسي (الناتو) في كوسوفو في عام 1999، ثم دعم الحرب في العراق عام 2003 واستقال عام 2007 بفعل الإخفاقات السياسية التي رافقته، لكنه رغم ذلك استمر في العمل السياسي والدبلوماسي كمبعوث خاص للرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط، وهذا الأمر كان الدافع وراء اتصاله بمعمر القذافي.

عمليا فإن توني بلير كان رئيسا للوزراء في بريطانيا خلال الفترة الحرجة التي أدت في النهاية إلى إنهاء العقوبات على ليبيا بعد أزمة “لوكربي”، وهو يعرف عبر الخبرة السياسية لمراحل وجوده كرئيس للوزراء طبيعة التوازن الذي أقامه الرئيس الليبي منذ استلامه الحكم في الأول من سبتمبر عام 1969، والمطالب التي وضعها أمام القذافي تحاول القفز على كافة الاعتبارات الليبية، وهذا الأمر ليس عبثيا فمن المؤكد أن توني بلير كان يعرف خطورة التلاعب بالتوازن الليبي، وإمكانية اشتعال الشمال الإفريقي على الأخص أن مصر كانت تعيش اضطراب ما بعد إزاحة الرئيس حسني مبارك، وكذلك تونس والسودان أيضا، لكن ما لم يتوقعه بلير هو أن يصبح الصراع في ليبيا جبهة حقيقية يصعب على الغرب التعامل معها كما يحدث اليوم.

أبعاد المحادثة:

لم يكن الحديث الهاتفي “الفرصة الأخيرة” حسب الوصف الغربي لها، إنما كانت إضاعة لكل إمكانية تُجنب ليبيا حربا مدمرة وتخلق حزاما من الفوضى على طول الشمال الإفريقي، ويمكن قراءة الحديث الذي دار وفق معطيات باتت واضحة اليوم، وتكشف التكوين السياسي الذي حكم الرؤية الغربية عموما عندما تدخل عسكريا في ليبيا، ويمكن فهم المحادثة وفق النقاط التالية:

  • التصور الغربي المسبق لما يحدث في ليبيا، حيث شدد بلير على ضرورة وقف العنف وسفك الدماء في ليبيا، وحث القذافي على توجيه رسالة للشعب لوقف العمليات القتالية، لكن الرئيس الليبي لم ينفي فقط مسألة الاقتتال بل دعا بلير لزيارة ليبيا.

كان بلير يعطي بهذا التصور غطاء سياسيا للحملتين الإعلامية والسياسية التي رافقت الحدث الليبي، فالاستناد إلى شرعية الاحتجاجات ومنحها بعدا إنسانيا لم يكن المبرر فقط لطلبه بتنحي القذافي، بل أيضا لمنح حالة الاضطراب السائدة هامشا أوسع للتحرك، فهو اعتراف رسمي بأنها تملك الشرعية إضافة للتلويح بـ”عصا القوة” التي ستدعم “الحراك” القائم.

  • لم تكن دعوة بلير لتنحي القذافي عن الحكم والبحث عن مكان آمن مجرد بداية للحل السلمي للأزمة حسب تعبيره خلال المكالمة، إنما “طي” صفحة سياسية أرهق الغرب عموما عبر سياسات القذافي التي بقيت ظاهرة صدامية ومتشابكة مع الصراع الدولي على الشمال الإفريقي.

كان معمر القذافي يعرف من علاقاته مع أوروبا والولايات المتحدة عبر أربعة عقود “القوة الليبية” الصلبة في المسرح الدولي، وبغض النظر عن المواقف من سياسات القذافي لكنه في النهاية كان يتعامل مع السياسات الدولية مستخدما قوة الاقتصاد الليبي بالدرجة الأولى، ولم يتهم الدول الغربية بالتخطيط لمؤامرة استعمارية جديدة ضد ليبيا بشكل عبثي،فهو تعامل مع تقلبات السياسات الغربية، وتهديده بتسليح الشعب الليبي للدفاع عن البلاد كان الورقة التي كان يستخدمها دائما في صدامه مع السياسات الغربية.

  • مخاوف بلير من تصاعد العنف لم تكن مجرد احتمال بل مسار دعمته في النهاية عملية التدخل العسكري، أما القذافي فحذر من الفوضى الإقليمية وليس فقط من اشتعال الحرب في ليبيا، وهذا الأمر كان رهانا أخيرا طرحه الرئيس الليبي لإعادة رسم مستقبل ليبيا بعيدا عن التدخلات الخارجية.

بلير، في محاولاته لإقناع القذافي بالتنحي، أكد أن الغرب يريد حل الأزمة سلمياً وأن التنحي سيتيح فرصة لعملية تغيير سلمية في ليبيا، متجاهلا كل خبرته في “الحلول السلمية” التي كانت تتهاوى وعلى الأخص دوره كوسيط في الرباعية الدولية لحل الموضوع الفلسطيني، فكانت توقعات القذافي حول مستقبل ليبيا والمنطقة أكثر واقعية، وتنطلق من الحفاظ على السيادة الليبية بالدرجة الأولى لضمان الاستقرار، ورؤيته بأن التدخل الغربي سيؤدي إلى فوضى واستغلال من قبل الجماعات المسلحة المتطرفة، هو ما حدث بالفعل، وكان يتناقض مع الرغبة الأمريكية في جعل ليبيا نموذجا للتحول العنيف الذي يمكن نقله لأماكن أخرى، وإصرار بلير على “المرحلة الانتقالية” لم يكن سوى تكتيكا سياسيا.

ما بعد الفوضى الليبية

تستمر المسائل المرتبطة بمحادثة بلير – القذافي في التفاعل وتضع العلاقات البريطانية – الليبية في مشهد جديد مع نجل الرئيس معمر القذافي، فالفريق القانوني الممثل لسيف الإسلام القذافي، اتهم المملكة المتحدة بمواصلة التدخل في الشؤون الداخلية لليبيا وسعيها لإقصاء سيف الإسلام من العملية السياسية في البلاد، فالسياسات البريطانية والغربية عموما تعمل على التعامل مع الأزمة الليبية من خلال الإبقاء على مستوى من التصعيد؛ بشكل يجعل الاستقرار حالة معقدة.

ويستند مناصرو سيف الإسلام القذافي إلى التسلسل الزمني الذي رافق الحدث الليبي، فالتدخل البريطاني الواضح والمحاولات الرامية لتقويض مشاركة سيف الإسلام في الانتخابات الرئاسية القادمة، هي جزء من تصفية الإرث السياسي لليبيا، ويدخل أيضا في تصفية الحسابات التي تضع أمام الحكومة البريطانية مهام أساسية في استبعاد أي عامل يخل بأشكال الفوضى القائمة حاليا.

فالتدخل العسكري الغربي في ليبيا، الذي بدأ بعد أسابيع قليلة من هذه المحادثة، أدى إلى سقوط نظام القذافي ولكنه لم يحقق الاستقرار المأمول، ودخلت ليبيا في دوامة من الفوضى والصراعات الداخلية، وانتشرت الجماعات المسلحة في البلاد مستغلة الفراغ الأمني وانتقلت إلى خارج الحدود الليبية، وامتدت لتشمل المنطقة بأسرها، فاستغلت الجماعات المتطرفة الفوضى للتمدد والنفوذ، ما أدى إلى تصاعد العنف في دول مثل مالي والنيجر وتشاد، كما ساهمت الفوضى في ليبيا في تعزيز تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وأضاف بعداً آخر للأزمة الإنسانية والسياسية.

بقلم مازن بلال

حفتر يبحث أزمة مصرف ليبيا المركزي مع خوري

اقرأ المزيد