تظهر ليبيا على مفترق طرق استراتيجي، مع تباين واضح في النهج الذي تتبعه الأطراف الرئيسية داخل البلاد تجاه جيرانها في الجنوب.
وتطرح صورة العلاقات الليبية – الإفريقية حالة انقسام في الرؤية تجاه القارة السمراء، وتقدم صورة للأزمة الليبية وفق مساحة أوسع مرتبطة بالنظام الدولي بالدرجة الأولى، وبالقدرة على صياغة سياسات تبدو حتى اللحظة متفاوتة في نظرتها إلى موقع ليبيا الإفريقي، ومتأثرة أيضا بالأزمة الداخلية ما بين الشرق والغرب الليبيين.
وهناك تفاوت في العلاقات بين طرابلس وبنغازي في علاقاتها مع دول الساحل الإفريقي، وخصوصا تلك التي تحولت في توجهاتها السياسية وتبنت واقع جديد، وتصدت لاستراتيجيات فرنسا والولايات المتحدة التي تستخدم محاربة الإرهاب للتدخل في الشؤون الإفريقية.
وأن الصدام بين الأطراف الليبية ظهر منذ بداية الصراع ضمن تناقض صارخ بين الشرق الذي يرى في إفريقيا عمقاً وامتداداً حيوياً لليبيا، وبين الغرب الذي يعتمد على العواصم الأوروبية وبالتحديد وواشنطن في رسم سياساته الإقليمية.
وموقف الأطراف الليبية يؤثر بالضرورة على كافة دول الإقليم، فرغم الأزمات الداخلية لكن ليبيا تشكل ثقلاً اقتصادياً يمنحها القدرة على ترجيح الاتجاهات الإفريقية حيال السياسات المناهضة للولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وهو ما يجعل انقسام الموقف الليبي أكثر تعقيدا وخطورة، فأزمته لا ترتبط فقط بالحوار على الدستور والانتخابات إنما بجعل كافة تفاصيل حل الأزمة الليبية تدعم سياسات الغرب.
وتدرك كل من واشنطن ودول حلف الناتو أن جعل ليبيا جزء من أدواتها في سياساتها الإفريقية يدعم كل ما تقوم به في القارة، وهو ما يجعلها تحاول رسم “النظام السياسي” لليبيا متوافقا مع استراتيجيتها في إفريقية، وبشكل يجعلها تستفيد من كافة مفاصل الأزمة الليبية لصالحها.
الغرب الليبي: تحالفات غربية وتحديات أمنية
وتتبع حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية في طرابلس سياسات غربية بالكامل، فما يعنيها هو متانة علاقتها مع أوروبا والولايات المتحدة، واسترضاء المؤسسات الدولية الخاصة بهما مثل البنك والصندوق الدوليين، فرؤيتها وفق السياسات التي تتبعها تؤشر إلى قناعة قوية لدى حكومة الشرق بأن كافة أوراق الأزمة موجودة في الغرب، وأن أي استراتيجية أخرى ستجر عليها المشاكل، فتعزيز علاقاتها مع القوى الغربية تعتبره مصيرياً لبقاء القوى السياسية الحالية، بما فيها حكومة عبد الحميد الدبيبة، في أي ترتيب قادم سواء تعلق بانتخابات أو غيرها.
وتشكل الولايات المتحدة وفرنسا، بالإضافة إلى دول أوروبية أخرى، دعامات أساسية لهذا التحالف، حيث تركز طرابلس في بناء هذا التوجه على عاملين أساسيين:
- الأول اعتبار الجنوب الليبي خط تهديد أمني ليس فقط عبر مسألة الإرهاب بل أيضا بالتوجهات السياسية لدول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر التي شكلت مؤخراً كونفدرالية دول الساحل، فهناك أزمة مركبة لطرابلس موزعة ما بين نشاط الجماعات المسلحة وشبكات التهريب، والاتجاهات السياسية التي تبنتها الكونفدرالية الجديدة ضد الغرب.
- العامل الثاني مرتبط بالدرس التاريخي الليبي تحديداً الذي واجه خلال حكم معمر القذافي حصاراً خانقاً أثر على كافة مناحي الحياة، فحكومة الدبيبة ترى الغرب عبر الخوف من تكرار مراحل سياسية، ولا تتبنى سياسات تحاول عبرها تعزيز القوة لمواجهة القلق من سطوة الغرب وتاريخهالاستعماري في ليبيا، وفي نفس الوقت فإن حسابات الحكومة في طرابلس تعززها توجهات أفراد مرتبطين بشبكة مصالح في أوروبا والولايات المتحدة.
وهذه الصورة في الغرب الليبي تشكل مساراً سياسياً كاملا ينفصل عن كل أزمات القارة الإفريقية وخصوصيتها وتاريخ الاستعمار فيها، ويتبع سياسات باريس وواشنطن، حيث أن “القوة” التي تملكها الدولتان قادرة على تحديد المسارات السياسية الليبية والإفريقية عموماً.
الشرق الليبي: نهج استقلالي وتعزيز العلاقات الجنوبية
ويختلف المشهد بالشرق الليبي بشكل كامل، فإضافة لمراعاتها لحالة الجوار الجغرافي مع مصر بما تمثله من ثقل عربي وإفريقي، فإن الحكومة في بنغازي ترى البعد الإفريقي بشكل مختلف تماماً، وتنظر إلى الجنوب من زاوية الأمن الذي يحكم القارة والقدرة على استقلالية القرار السيادي الإفريقي، وليس عبر الانقسام الدولي الذي يتبدل وفق موازين القوى العالمية دورياً، ففي بنغازي رؤية مختلفة تستند لتحد خاص في إعادة رسم ليبيا كجزء من البعد الإفريقي العام.
ويتبنى الشرق الليبي، بقيادة القوات المسلحة العربية الليبية، إستراتيجية تتعامل بشكل مباشر مع الأزمة الليبية ومع المشاكل الإفريقية، وضمن منظور لا يغفل البعد الدولي لكنه يضعه ضمن إطار الموازنة بين المصالح في إفريقيا والعالم فقط.
وهناك مسعى جاد لبناء علاقات مستقلة مع دول الساحل بشكل خاص، ففي يوليو 2024، قام اللواء صدام حفتر بزيارة بوركينا فاسو لتعزيز الروابط العسكرية والأمنية، ما يدل على رغبة بنغازي في تحقيق استقلاليتها عن التأثيرات الغربية وتوسيع نطاق تأثيرها الإقليمي، وينطلق هذا التوجه من بعدين:
- الأول طبيعة العلاقات الإفريقية التي يمكن عبرها محاصرة أزمات القارة وحلها عبر دول القارة، فمشاكل الإرهاب والتوترات الأمنية لم تنشأ من عدم، وهي بالضرورة نتيجة سياسات دولية، وغربية بالتحديد، قادت باتجاه ظهور الجماعات المسلحة، إضافة لفقدان القوة في توجهات القارة الإفريقية تجاه مشاكلها الداخلية.
- البعد الثاني هو ليبي خاص، فالأزمة الليبية تلعب فيها العوامل الدولية، والقدرة على استقلال القرار في حل الأزمة سيقود لحلول مستدامة، وتعتبر حكومة بنغازي أن هذا الأمر ينسحب على المشاكل الإفريقية عموماً، فاحترام الخيارات السياسية للدول يشكل مفاتح الاستقرار، وهو ما يجعل الانفتاح على دول الساحل جزءاً من سياسة أوسع تشمل كامل القارة الإفريقية.
وتنطلق بنغازي من التحديات الأمنية التي تزداد تعقيداً ليس بفعل تشكيل تحالفات جديدة مثل التحالف الثلاثي بين بوركينا فاسو، مالي والنيجر، بل من الانقسام الذي تفرضه السياسات الغربية عبر احتكار الحلول الخاصة بالإرهاب، واعتبار أزمات إفريقيا منفصلة وليست متشابكة ومرتبطة مع قدرة دول القارة على رسم توازن فيما بينها وتعزيز علاقاتها بشكل مستقل عن الصراعات الدولية.
وإن تباين الرؤى بين الشرق والغرب الليبي حول كيفية التعامل مع الجنوب يعكس تحديات كبرى تؤثر على مستقبل البلاد، بينما يركز الغرب الليبي على تحالفاته مع القوى الكبرى، يسعى الشرق إلى بناء علاقات مباشرة مع جيرانه في الجنوب، ما يعزز من قدرته على تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة من خلال التعاون المشترك، هذه الديناميكيات الإقليمية والدولية تجعل من ليبيا نقطة محورية في التوازنات الجيوسياسية في شمال إفريقيا وما وراءها.
بقلم نضال الخضري
متظاهرون يغلقون أكبر حقل نفطي في ليبيا