تطرح عملية “إيريني” التصور الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط كمجال حيوي للقارة “العجوز”، فهو ساحة تصفية حسابات وذلك بغض النظر عن الأهداف التي طرحها الأوروبيون من هذه العملية.
قبل “إيريني” كانت هناك عملية “صوفيا” التي تم تسميتها رسميا باسم عملية الاتحاد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط، وكانت مهمة بحرية أطلقها الاتحاد الأوروبي في يونيو 2015 لمكافحة شبكات تهريب البشر في البحر الأبيض المتوسط، والتسمية جاءت نسبة إلى صوفيا، وهي طفلة وُلدت على متن إحدى سفن الإنقاذ الأوروبية، لكن “الطابع الإنساني” الذي يحمله اسم العملية لا يعبر عن “الاستراتيجية الأوروبية” منها، فهي اصطدمت بتشابك المصالح الدولية والإقليمية في ليبيا، والفشلفي تطبيق الحظر الأممي على توريد الأسلحة إلى ليبيا، الذي كان نتيجة التوازنات الحرجة لتحالفات المجموعات المسلحة على المستويين الدولي والإقليمي.
في مارس 2020، تم استبدال عملية صوفيا بعملية جديدة تُسمى “إيريني” (IRINI)، حيث ركزت بشكل أكبر على تطبيق حظر الأسلحة المفروض على ليبيا، وسعت حسب هدفها المعلن لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2292 لعام 2016، الذي يسمح بتفتيش السفن في أعالي البحار التي يُشتبه في انتهاكها لحظر الأسلحة المفروض على ليبيا، إضافة لمهام أخرى تشمل تدريب خفر السواحل الليبي والبحرية الليبية، ومحاربة الاتجار بالبشر، ووقف الصادرات غير المشروعة من النفط الليبي.
أبعاد أوروبية متعددة
شكلت عملية “إيريني” استراتيجية أوروبية متعددة الأبعاد ضمن “المجال المتوسطي”، حيث حاولت احتكار تطبيق القانون الدولي وفق سياق خاص وبدون التنسيق مع باقي دول المتوسط التي كانت سابقا مستعمرات أوروبية، والمؤشرات الأساسية لها توضح أن المراقبة البحرية الأوروبية ركزت على رسم ملامح قوة ضمن المشهد الليبي، وسعت عبر الدوريات البحرية إلى وضع “حزام أمني” محدد لتشكيل توازنات بين القوى الليبية التي ظهرت بعد مقتل الرئيس معمر القذافي، ويمكن النظر إلى عملية “إيريني” وفق ثلاث محاور أساسية:
- النطاق الجغرافي لعملياتها:فالدوريات البحرية تعمل على بعد حوالي 100 كيلومتر من الساحل الليبي، وتتركز في الجزء الشرقي من المياه الليبية، بينما بقي الجزء الغربي الذي مازال حتى اليوم يحوي مجموعات مسلحة متطرفة بعيدا عن الرقابة البحرية.
يمكن فهم القلق الأوروبي من الشرق الليبي نتيجة طبيعة الاشتباك الدولي، وطبيعة التماس مع مصر بالدرجة الأولى التي شكلت عاملا استراتيجيا ليس فقط خلال الحرب الليبية، بل أيضا في المراحل اللاحقة، فالشرق هو بوابة تحالفات خارج نطاق الاتحاد الأوروبي، والقوة السياسية التي ظهرت في بنغازي عبر الحكومة المؤقتة والقيادة العامة للجيش الوطني الليبي (LNA) بقيادة المشير خليفة حفتر، أبدت تماسكا مختلفا عن حكومة طرابلس التي تعكس توازن الفصائل المتواجدة هناك، إضافة لكونها نقطة التقاء المصالح الأوروبية.
- التركيز على المراقبة البحرية: التي تعكس التحكم الجيوسياسي بالسيطرة على المتوسط لضمان الأمن والاستقرار في الجنوب الأوروبي، فالتركيز على النطاق البحري يتيح للاتحاد الأوروبي تعزيز سيطرته الأمنية ومراقبته لأنشطة السفن والشحنات التي تمر عبر هذه المنطقة الحيوية.
رغم أن الهجرة غير الشرعية تشكل هدفا من عملية “إيريني” لكن الواضح أن التحرك الأوروبي يرى هذه المسألة ضمن التحكم الجيوستراتيجي بالمسارات البحرية لحوض المتوسط، فهناك اتجاه لجعل هذا الحوض مُغلقا تجاه كافة القوى الدولية الأخرى، ويتيح من جانب آخر التعامل مع البوابة الشمالية للقارة الإفريقية عموما.
- العمل من خارج مجلس الأمن: فرغم أن العملية بعنوانها العريض تسعى لتنفيذ قرارات مجلس الأمن بخصوص حظر دخول الأسلحة إلى ليبيا، لكنها بقيت مبادرة أوروبية بامتياز وتعكس توجها لا يتوافق مع مواقف عالمية أو حتى إفريقية حول آلية التعامل مع المسألة الليبية.
ويوضح موقف مندوب روسيا لدى مجلس الأمن، فاسيلي نيبينزيا،بعد عام من عملية “إيريني” طبيعة النظر إلى الاستراتيجية الأوروبية تجاه ليبيا، حيث اعتبر أنها لم تحقق نتائج ملموسة وذلك خلال جلسة لمجلس الأمن الدوليفي تاريخ 12 مايو 2021، مشيرا إلى فشلها في تحقيق أهدافها الرئيسية المتمثلة في تطبيق حظر الأسلحة على ليبيا بشكل فعال، أو منع تدفقها، ما أسهم في استمرار النزاع وعدم الاستقرار في البلاد.
- الانتقائية في إجراءات التفتيش: التي تجري في مناطق محددة، والدوريات البحرية تتعامل مع عمليات المراقبة أو المصادرة بطرق غير شفافة، فالعملية بذاتها كانت موضع شك نظرا لطبيعتها المرتبطة بالمصالح الأوروبية في ليبيا.
يبدو التحيز في التفتيش جزءا من آلية العمل حيث تركز الدوريات بشكل أكبر على سفن تنقل الأسلحة المشتبه بها إلى الفصائل المعارضة للحكومة الليبية في طرابلس، بينما تغض الطرف عن شحنات بعض الأطراف في الغرب الليبي، وهناك تساؤلات حول مدى شفافية العملية وكيفية تقديم التقارير عن نتائج التفتيش والإجراءات التي تتبعها.
“إيريني” والدور العسكري التركي في ليبيا
منذ بداية النزاع في ليبيا، كانت تركيا داعماً رئيسياً لحكومة الوفاق الوطني عبر توريد الأسلحة والمعدات العسكرية، وتقديم التدريب والدعم اللوجستي، وتدخلت أنقرة عسكرياً بشكل مباشر في ليبيا، بما في ذلك إرسال مستشارين عسكريين، وقوات خاصة، وطائرات مسيرة هجومية، وهذا التدخل أدى إلى تغيير موازين القوى على الأرض، خاصة في معارك طرابلس.
وعلى الرغم من حظر الأسلحة المفروض من قبل الأمم المتحدة، استمرت تركيا في تزويد حكومة الوفاق بالأسلحة، وتم توثيق العديد من حالات نقل الأسلحة عبر البحر، وهو ما تسعى عملية إيريني إلى منعه، وهذا التدخل ساهم في زيادة تعقيد النزاع الليبي، وأدى إلى تعزيز الانقسامات الداخلية، ومنذ توقيع اتفاقية التعاون الأمني والعسكري مع حكومة الوفاق الوطني في طرابلس في نوفمبر 2019، مكنت هذه الاتفاقية تركيا من تقديم دعم عسكري مباشر إلى طرابلس مثل طائرات بدون طيار، ومستشارين عسكريين لدعم قوات حكومة الوفاق.
إلى جانب الاتفاق العسكري، وقعت تركيا وحكومة الوفاق اتفاقية لترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط، والتي مكنت تركيا من تعزيز نفوذها في مناطق غنية بالغاز الطبيعي، ولم تتمكن عملية “إيريني” من منع تدفق الأسلحة التركية لحكومة الوفاق نظرا لطبيعة الدور الإقليمي التركي في حوض المتوسط عموما، فـ”إيريني” في النهاية تتعامل مع توازن آخر مع شرقي المتوسط مختلف تماما عن ساحل شمال إفريقيا، وهي تنظر لمناطق نفوذها في حوض المتوسط من زوايا التشابك الدولي، وتركيا بالنسبة لها أكثر من مجرد دولة في حلف “الناتو”، لأنها أيضا جزء من حزام جغرافي مع روسيا والبحر الأسود، فهي سعت لعزل الصراع الليبي عن أوروبا، وجسدت استراتيجية سيطرة للتعامل مع التوازن الليبي بالدرجة الأولى ومع شمال إفريقيا عموما.
بقلم مازن بلال
الزنتان تعلن دعمها لترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية