22 ديسمبر 2024

تكشف مسألة تهريب الذهب من ليبيا عن أزمة مركبة لا تقتصر على أبعاد الفساد إنما توضح ديناميكية خاصة بين الواقع القائم وتعثر الحل السياسي.

ويبدو أن انعدام أفق الحل السياسي يشكل بيئة تحاول “المافيات” المنتشرة في غرب البلاد الحفاظ عليها لاستمرار عملها، كما يعكس الصراع المستمر على السلطة والنفوذ بين مختلف الفصائل المسلحة والمسؤولين الحكوميين، علاقة مركبة لا تحمل معها برامج سياسية بين الخصوم، إنما محاولة للحفاظ على حد من الصراع يغذي مساحة تعمل فيها الشبكات التي تستنزف الثروات الليبية سواء بشكل مباشر أو حتى عبر تقاسم الاستثمارات للشركات الأجنبية.

الخلفية والأحداث.. الكشف عن عملية التهريبفي مايو 2024، أعلنت النيابة العامة الليبية عن حبس مدير عام مصلحة الجمارك، العميد فتحي مخلوف، وقيادات أخرى في مطار مصراتة الدولي، بتهمة التآمر لتهريب 26 طنا من سبائك الذهب، وأشارت التحقيقات إلى تواطؤ المسؤولين مع جهات أخرى لإخراج الذهب بطرق مخالفة للأنظمة والقوانين، ورغم حجم هذه القضية على مستوى الفساد الاقتصادي لكنه في نفس الوقت يكشف صراعا آخر على مستوى القوى الموجودة في الغرب الليبي، فمسألة تهريب الذهب تم الكشف عنها في ذروة الصراع بين رئيس الوزراء المنتهية ولايته، عبد الحميد الدبيبة، ومحافظ المصرف المركزي الصديق الكبير.

وظهرت قضية تهريب الذهب إلى العلن في ديسمبر الماضي، عندما تم تداول تسجيلات صوتية عبر وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى تورط رئيس جمرك مطار مصراتة، والقيادي في قوة العمليات المشتركة أبو القاسم الصمدي في هذه العملية، وقد تم تسريب التسجيلات عبر جهاز الأمن الداخلي، وتضمنت مكالمات تكشف التنسيق بين المتورطين مع هيئة الرقابة الإدارية، وبالتأكيد فإن كمية 26 طنا من الذهب هي كمية ضخمة، وتشير إلى وجود قناة تهريب مستمرة ومنظمة منذ فترة طويلة، وهو ما جعل وسائل الإعلام تربط بين هذه الكمية واختفاء 26 طنا من خزائن ليبيا، لكن التحقيقات لم تذهب بهذا الاتجاه وظهرت كتصفية حسابات، أو حتى الدخول في تشويه متعمد لصورة سمعة رئيس البنك المركزي الصديق الكبير.

عمليا فإن رئيس البنك المركزي ليس بعيدا عن الصراعات بين الشبكات التي تحكم الغرب الليبي، والسؤال لا يتعلق بتورط الصديق الكبير في هذا الموضوع إنما بنوع الصراع على النفوذ ضمن دوائر الفساد السياسي، والمقاربة التي طرحتها وسائل الإعلام بين اختفاء الذهب من البنك المركز وقضية التهريب ليس مصادفة، بل شكل من الضغوطات المتبادلة بين الأطراف خصوصا أن قضية التهريب تم تسريبها عبر الأجهزة الأمنية، وهو يعيد إلى المشهد صراعا مشابها على مؤسسة النفط منذ استحداث وزارة النفط والغاز في حكومة الوحدة الوطنية في مارس 2021، حيث يدور صراع بين وزير النفط والغاز “محمد عون” ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط “مصطفى صنع الله”.

المشهد الأوسع.. القنوات الرئيسية للتهريب
تعتبر قناة تيبستي – مصراتة – تركيا من أبرز قنوات تهريب الذهب في ليبيا، حيث يتم تهريبه بطرق غير شرعية من منطقة تيبستي في تشاد، عبر مصراتة ومن ثم إلى تركيا، ومنطقة انطلاق الذهب في تشاد شهدت حروبا ونزاعات مع نظام إدريس ديبي، إلى الحد الذي تتحدث فيه بعض التقارير على أنه قُتل على أيدي شبكات التهريب، وبغض النظر عن التفاصيل التي تحكم كافة مراحل التهريب فإن إثارة موضوع الذهب القادم من تشاد جاء لتعقيد مسألة عملية التهريب التي طفت على سطح المشهد السياسي الليبي، وتوضح أن ما حدث هو عنصر في صراع السلطة والنفوذ وعائدات النفط في غرب ليبيا، فـ 26 طنا من الذهب هو مبلغ ضئيل، أمام عمليات تهريب عائدات النفط الليبي، وهو موضوع لم يحظ بالاهتمام الكافي رغم إثارته إعلاميا.

لا تختلف مسألة النفط عن قضية الذهب المهرب، رغم أن التركيز في موضوع النفط غالبا ما يتناول عمليات التهريب المباشر وليس عائدات التصدير الرسمي، ففي غرب ليبيا تنشط عصابات متخصصة في تهريب الوقود إلى دول الجوار، سواء عبر البر نحو تونس والدول الإفريقية أو عبر البحر نحو مالطا، وهذه العصابات تدير أنشطتها عبر شبكات مترابطة مع جميع القوى المتحكمة في الغرب الليبي، وتقدر المؤسسة الوطنية للنفط الخسائر الحاصلة عن عمليات تهريب الوقود إلى خارج ليبيا بـ 750 مليون دولار سنويا.

ويظهر اقتحام عناصر القوة المشتركة في مصراتة، فرع مكتب النائب العام، لتهريب رئيس مركز جمرك مطار مصراتة فتحي مخلوف، جزء من سيناريو متكامل في تشابك شبكات الفساد وأجهزة الدولة، وهو جزء من سياق عام يظهر التدهور الأمني فيه ظاهرة للعلاقة التي تكرس بيئة لا يمكنها أن تنسجم مع الاستقرار أو الحل السياسي، ففي النهاية هناك أكثر من مستفيد من عدم الاستقرار بل تؤسس أيضا لشكل من التحكم بالمجتمع الليبي عبر مراكز القوى السياسية المستندة بقوتها لشبكات الفساد.

قضية تهريب 26 طنا من الذهب في ليبيا ليست مجرد حادثة جنائية بسيطة، بل هي جزء من شبكة معقدة من الصراعات والنفوذ والفساد، وتحليل هذه القضية يقود بشكل سريع إلى الحالة السياسية الأعم المحكومة أساسا بعجز سياسي، وبالتأسيس لبنية خاصة للدولة في الغرب الليبي قائمة أساسا على شبكات هي الظل الذي يحكم كل الصراعات القائمة التي تقف في النهاية وراء تعثر إنجاز أي حل سياسي متكامل.

بقلم مازن بلال

مسؤول ليبي: مجلس الدولة منقسم ويعرقل جهود الانتخابات

اقرأ المزيد