تعبر الانتقادات الموجهة إلى بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (أونسميل) عن تململ شعبي من المرحلة السياسية، فكافة الأطراف السياسية تتنقد بشدة أداء البعثة وتخطى الهجوم عليها مرحلة التريث وانتظار نتائج عملها.
هذه الحالة من الإجماع السلبي تستدعي قراءة أعمق لطبيعة دور البعثة، ومآخذ الأطراف الليبية والدولية عليها، وهل نحن أمام وسيط دولي يتعرض للشك في حياديته تجاه جميع الأطراف، أم أمام جهاز دولي يفتقد للفعالية والاتساق في إدارة إحدى أعقد الأزمات في شمال إفريقيا.
تصريحات تيتيه: عاصفة في التوقيت الخطأ
تبدو أحدث شرارات الغضب الليبي موجهة بشكل مباشر إلى تصريحات الممثلة الخاصة للأمين العام، هانا تيتيه، التي عبرت فيه عن موقف سياسي واعتبرت أن “الوقت غير مناسب لإجراء الانتخابات” رغم أن كل الأجسام السياسية تعاني من الانقسام، وبينت بأن شرعية حكومة الدبيبة منتهية الولاية “موضع تساؤل”.

هذه المواقف المتضاربة فجّرت انتقادات من معارضي الدبيبة ومؤيديه، وأظهرت كيف أن البعثة هي في نظر الكثيرين غير منسجمة حتى مع نفسها، والمفارقة أن هذه التصريحات جاءت في لحظة حرجة، حيث يشتد الضغط الشعبي والسياسي من أجل إجراء انتخابات؛ تؤسس لنهاية المرحلة الانتقالية لا إدامتها.
اللجنة الاستشارية: مقترحات باهتة وخيارات غير ملزمة
أعلنت البعثة في 4 فبراير 2025 عن تشكيل لجنة استشارية من 20 شخصية ليبية؛ لتقديم خيارات تقنية لمعالجة الوضع الانتخابي المعقد، ورغم أن اللجنة ضمت كوادر قانونية من مختلف المناطق الليبية، فإن ردود الفعل عليها جاءت متباينة، بل وسلبية في أحيان كثيرة.

الاعتراض الأبرز جاء من مجلسي النواب والدولة، حيث اتفقا، رغم العديد من الخلافات بينهما، على أن تشكيل اللجنة تم دون تشاور مسبق، وأن البعثة تجاوزت صلاحياتها بتقديم مقترحات تمس المسار الدستوري، وهو أمر اعتبره البعض فرضا لأجندة خارجية تتخطى السيادة الليبية.

عملياً فإن البعثة لا تملك غطاء سياسياً أو قانونياً لما تطرحه، وتقترح مسارات مبنية على مؤسسات بعضها فقد شرعيته وهي بهذه الطريقة تكرس المأزق السياسي بدلا ًمن أن تقوم بتهيئة مناخ يتيح استكمال العمل لإنجاز استحقاق انتخابي ينتظره الليبيون منذ سنوات.
تشظي الثقة: من طرابلس إلى بنغازي
الانتقادات لم تعد حكراً على النخب السياسية، بل امتدت إلى الشارع الليبي، فالاشتباكات في طرابلس، والمظاهرات التي طالبت بإسقاط كافة الهيئات السياسية، وتذمر شعبي متصاعد من انهيار المعيشة وتعطل الخدمات؛ كلها عوامل جعلت من بعثة الأمم المتحدة هدفا للغضب العام.

بعض الأكاديميين الليبيين وصفوا البعثة بأنها “تطيل عمر الأزمة بلا سبب”، فيما يرى آخرون أنها انحازت إلى طرف سياسي، أما شباب الحراك البرقاوي فيتهمونها بأنها لا تمثل جميع الليبيين، ويطالبون بتفعيل الدستور الليبي بدل المقترحات الدولية.
إحدى النقاط الجوهرية في نقد البعثة هي شبهة الانحياز، حيت ظهرت اتهامات صريحة بمساندة غير معلنة للدبيبة، والمفارقة أن من يقفون مع حكومة طرابلس يتهمونها بالتقويض المتعمد لحكومة الدبيبة، وهذه التناقضات تكشف عن فوضى في التقدير السياسي للبعثة، وفشلها في الحفاظ على صورة الوسيط النزيه، فالبعثة باتت تعرض “سلة خيارات” لتجميع الآراء، دون أن تحدد رؤية واضحة، مع غياب الدعم الأمريكي للبعثة تفقد هذه المبادرات غطاءها الدولي الفعّال.
المعضلة البنيوية: هل للأمم المتحدة خطة واضحة؟
بعيداً عن الخلافات السياسية، ثمة تساؤلات أعمق،فهل لأونسميل خطة متماسكة؟ وهل تملك أدوات الضغط أو التوافق؟ الجواب في الشارع الليبي كان سلبياً لأبعد الحدود، حيث لم تحقق البعثة تقدماً في إخراج القوات الأجنبية أو نزع سلاح الميليشيات، وفشلت في دعم اتفاق اقتصادي يضمن وحدة الميزانية، ما يزيد من أزمات التضخم وشح السيولة، أما في ملف حقوق الإنسان، فتواجه اتهامات بالتغاضي عن الانتهاكات، وعدم تقديم دعم حقيقي للمجتمع المدني أو الصحفيين المستهدفين.
وتتضح أزمة البعثة أيضاً في المواقف الدولية، فالولايات المتحدة لم تعد متحمسة للدفاع عن أداء البعثة، بينما دعت روسيا والصين إلى مراجعة جذريّة لدورها، بسبب “انعدام التوازن”.

وأما مصر والجزائر فتطالبان بحلول إفريقية تضع الليبيين في صدارة مشهد الحل، لا الخارج، وهذا الاتجاهات الدولية والإقليمية، تهدد مستقبل البعثة، فبين مطالبات بإعادة هيكلتها، ودعوات بإنهاء مهمتها، تبدو أونسميل على مفترق طرق حاد، يفرض عليها إعادة تقييم جذرية لمهمتها، أو مواجهة فقدان شرعيتها بالكامل.
بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا تجد نفسها الآن في قلب عاصفة سياسية محلية ودولية، وفشلها في إدارة التعقيد الليبي بفعالية وشفافية، واعتمادها على مؤسسات محلية فاقدة للشرعية، وانعدام الرؤية الإستراتيجية، كلها عوامل ساهمت في انهيار الثقة.
إن الانتقادات على اختلاف مصادرها ليست مجرد ضجيج سياسي، بل مؤشرات على أن البعثة بحاجة إلى إعادة تعريف شاملة لدورها، وإلى قيادة جديدة تملك قدرة واقعية على الوساطة، لا مجرد إدارة الأزمة إلى أجل غير مسمى، فما تحتاجه ليبيا ليس بعثة حيادها مشكوك فيه، ولا لجنة استشارية صورية، بل مسار سياسي حقيقي يستند إلى توافق ليبي داخلي، لا إلى أوهام صيغت في مكاتب نيويورك أو جنيف.
بقلم: نضال الخضري
توقف الإنتاج والتصدير النفطي في ليبيا على خلفية أزمة البنك المركزي
