اتخذ الوجود الأمريكي في القارة الإفريقية أبعادا جديدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث أصبح الإرهاب ظاهرة تبرر توسيع نفوذ واشنطن والدخول في تنافس جيوسياسي دولي للتحكم بالقارة السمراء.
لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن التدخل في معظم الدول الإفريقية، وخصوصا في إطار دعم حالات التمرد أو التشجيع على الانقلابات العسكرية، ولكنها بعد قيادتها لحملة عسكرية لإخراج القوات العسكرية من الكويت أصبح تدخلها مباشرا، وهو ما قامت به في الصومال في عملية “إعادة الأمل” ما بين 1992 و 1993، لكن النهاية المأساوية لهذا التدخل بعد معركة مقديشو التي قتل فيها 18 جنديا أمريكيا أعاد حالة الانكفاء في تسعينيات القرن الماضي عندما انصب الاهتمام الأمريكي على ترتيب الوضع الأوروبي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي.
خلفيات الوجود الأمريكي في إفريقيا
كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 نقطة مفصلية حيث أعلنت الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب، وبدأت في توسيع نفوذها العسكري في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك إفريقيا، وركزت واشنطن في البداية على مناطق مثل الصومال والساحل الإفريقي، حيث تنشط جماعات مثل حركة الشباب وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، لكنها تحولت في السنوات الأخيرة، نحو النيجر التي أصبحت مركزاً لعمليات الولايات المتحدة في غرب إفريقيا.
دفعت التحولات السياسية والعسكرية في مالي وبوركينا فاسو الإدارة الأمريكية لنقل مركز عملياتها الإقليمية إلى النيجر، واعتمدت على قواعد للطائرات بدون طيار لمراقبة أنشطة هذه الجماعات ودعم القوات المحلية خلال العمليات القتالية، لكن استخدام أراضي النيجر يحمل أبعادا جيوسياسية بالنسبة لواشنطن، فعلى خلفية تعزيز الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيق أمرين:
- الأول: احتواء النفوذ الروسي والصيني الذي تطور بشكل واضح منذ بداية الألفية الجديدة، فروسيا والصين زادت نفوذها في النيجر خلال العقدين الماضيين عبر التعامل مع القطاعات الاقتصادية والعسكرية، وتلعب الصين دورا أكبر في البنية التحتية والتنمية، بينما تركز روسيا على الدعم العسكري والأمني لكنها في نفس الوقت تستثمر في قطاعات التعدين والطاقة، ويوضح الرسم البياني التالي تطور النفوذين الصيني والروسي داخل النيجر:
- الثاني خلق استثمارات تبرر للمجموعات الاقتصادية الأمريكية الكبرى طبيعة التدخل، فالولايات المتحدة تستثمر في مشاريع البنية التحتية والطاقة الخضراء والتنمية الصناعية في إفريقيا، وتعتبر هذه الاستثمارات جزءاً من استراتيجيتها لتعزيز نفوذها الاقتصادي، ودرجة الإحباط السياسي الأمريكي الحالي نتيجة الانقلاب العسكري في النيجر (2023) يمكن قراءته عبر الرسم البياني التالي:
يوضح الرسم البياني حجم ما وضعته الإدارة الأمريكية في النيجر لمواجهة النفوذين الصيني والروسي، فتحت “مظلة” مكافحة الإرهاب و تكريس أبعادا كثيرة داخل كافة قطاعات النيجر العسكرية والاقتصادية بما في ذلك الهبات والقروض التي توقفت بعد انقلاب 2023.
التداعيات السياسية والأمنية
بقي الاستقرار هشا رغم الوجود الأمريكي في النيجر، فالإرهاب توسع بشكل واضح في وقت شهدت العديد من الدول الإفريقية حروبا داخلية، فمسألة مكافحة الإرهاب تحولت إلى جبهات عسكرية بعد أن كانت خلايا نشطة، في وقت لم تؤدي المساعدات المالية والتنسيق الأمني إلى تقليص وجود المجموعات المسلحة، وبالتأكيد فإن الإدارة الأمريكية كانت تعرف مسبقا أن مسألة الحرب على الإرهاب أعقد بكثير من التدخل العسكري المباشر، فهي مسألة مرتبطة بالمنظومة السياسية للدول الإفريقية وعلاقتها مع النظام الدولي ككل، فالإرهاب أصبح مسألة دولية مع تحول النظام العالمي إلى “القطب الواحد”.
عمليا فإن “الإرهاب” كان موجودا طوال النصف الثاني من القرن العشرين، لكنه لم يتحول إلى ظاهرة عالمية إلا بعد اعتماد الولايات المتحدة على التطرف الديني في صراعها مع الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بالدرجة الأولى، ما أدى لانتشار هذه الظاهرة على المستوى العالمي، ويصور الرسم البياني تطور العمليات الإرهابية في النيجر منذ التدخل الأمريكي عام 2013:
كان التدخل الأمريكي انتهاكا فقط للسيادة الوطنية سواء في النيجر أو بوركينا فاسو أو مالي، حيث تقوم الولايات المتحدة بعمليات عسكرية دون موافقة واضحة من الحكومات المحلية، ودون مراعاة للطبيعة الاجتماعية في مناطق النزاع أو حتى التعامل مع عمق أزمة الإرهاب التي انتشرت في إفريقيا عموما نتيجة عوامل أثنية أو قبلية بالدرجة الأولى، وتطورت بفعل السياسات الهشة للدول وليس نتيجة عدم التطور في القدرات الأمنية، وهذا ما جعل واشنطن تواجه تحديات دبلوماسية في التعامل مع حكومات المنطقة.
تحولت النيجر إلى محور رئيسي للتواجد العسكري الأمريكي في غرب إفريقيا، حيث تمتلك الولايات المتحدة قاعدتين للطائرات بدون طيار في وسط وجنوب النيجر، وتشكل هذه القواعد جزءاً أساسياً من الجهود الأمريكية لمراقبة ومواجهة الجماعات المسلحة في المنطقة، ورغم تقليص الحضور العسكري من 1100 جندي إلى نحو 650 جندي، استمرت واشنطن في الحفاظ على تواجدها في النيجر واستأنفت عملياتها جزئياً من القواعد الجوية في البلاد، وذلك وسط عدم استقرار سياسي حيث شهد الغرب الإفريقي ثمانية انقلابات عسكرية خلال السنوات الأربع الماضية.
أصبح الوجود الأمريكي في النيجر وإفريقيا عموما مكشوفا لأبعد الحدود، وهو لا يثير استياء فقط من الحكومات الجديدة بل يفاقم الأزمات لأنه يستخدم حربه على الإرهاب لتصعيد تنافسه الجيوسياسي مع القوى الدولية الأخرى، وعلى الأخص روسيا والصين، فمعركته الأساسية تبدو في فتح أسواق جديدة وخلق ديناميكيات داخل القارة مناهضة لأي نشاط اقتصادي أو أمني خارج سياسة واشنطن التي تسعى لاحتكار الوجود في إفريقيا.
بقلم مازن بلال
روسيا تؤكد عزمها عقد اجتماع فلسطيني جديد لتحقيق تسوية دائمة في الشرق الأوسط