18 أكتوبر 2024

تتحول ليبيا بفعل الانقسام السياسي إلى مناطق نفوذ ومراكز قوى تقتسم البلاد، فمأزق الانتخابات لا يعكس فقط تنافساً داخلياً بل إرادة أوروبية للتحكم بالشمال الإفريقي.

قراءة الانتخابات الليبية تبقى ناقصة دون الأخذ بعين الاعتبار سياسة “الأمر الواقع” التي ظهرت بعد انهيار نظام الرئيس السابق معمر القذافي، ففي السنوات الأولى للثورة ووسط فوضى انتشار الميلشيات المتطرفة بدأت عمليات تصفيات المجموعات المتطرفة من الشرق الليبي، في وقت كان الصراع في الغرب يخلق قوى متباينة خلال عمليات إزاحة الفصائل الراديكالية، والخارطة السياسية الليبية ارتسمت وفق الدعم الذي تلقته الأطراف في عملياتها العسكرية لإنهاء الميليشيات المتطرفة مثل “داعش”.

لم تخلق المعارك طوال السنوات الأولى للثورة الليبية قوة مركزية مسيطرة، فالدعم الغربي خلف فصائل مختلفة أصبحت عبر الزمن داعمة لبعض القوى السياسية التي دخلت عملية التسوية، وهو ما جعل الانتخابات تمثيلا ًلمراكز القوى وجعل الدستور والتشريعات مسألة مرتبطة بالنفوذ القائم على الأرض، ورغم أن تصفية الفصائل المسلحة يُفترض أن تقلل من عددها؛ لكن ما حصل كان معاكساً لهذا المسار، فإنهاء “داعش” خلف مجموعات جديدة ظهرت خلال المعارك وسيطرت على الجغرافية الليبية، فالتنظيمات الإسلامية الكبيرة تحولت لمجموعات أصغر بينما ظهرت تشكيلات جديدة أيضاً على هامش الحرب ضد التطرف، ويوضح الرسم البياني زيادة عدد المجموعات المسلحة منذ الثورة الليبية:

خلفيات سياسية – دولية

في المشهد الليبي العام هناك حكومتان الأولى حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، مدعومة أميركياً وأوروبياً، وحكومة الاستقرار الوطني بقيادة أسامة حماد، لكن هذا التجلي السياسي لا يعكس عمق الآلية السياسية التي تحكم في ليبيا، فالحكومتان تستندان إلى شبكة معقدة من الولاءات الداخلية والعلاقات الخارجية، ورغم أن الوضع في الشرق الليبي يقدم حالة استقرار أكبر، لكن المحصلة السياسية هي تباين المصالح داخل ليبيا عموماً، ما جعل الانتخابات في مأزق نتيجة التناقضات الحادة التي تتكرس بفعل الزمن، فحكومة الدبيبة كنموذج للخارطة السياسية تستند لمجموعة من الفصائل التي تقدم لها اسناداً عاماً وفق الرسم البياني التالي:

تناقض المشهد بين الغرب والشرق

ترسّخ الحالة الفصائيلة في الشرق حالة نفعية، يبقى خلالها استمرار حكومة الدبيبة مرهوناً، ببعض جوانبه، في تحقيق مصالح الفصائل. هو لا يمثلها سياسياً فقط بل يرسم توازنات بينها عند التفاوض من أجل الانتخابات أو وضع دستور، وهو ما يجعل الدستور بذاته محاولة لجعل الفصائل المسلحة ضمن خارطة الدولة، وإعطائها شكلا ًشرعياً عبر دمجها بباقي المؤسسات، وهذا ما يترك الدولة مشتتة بين مجموعة ولاءات ويهدد بتفكيكها.

يختلف الأمر في الشرق الليبي مع وجود سلطة مركزية مدعومة من الجيش الوطني الليبي، وفي نفس الوقت فإن المصالح العامة للحكومة في بنغازي مختلفة كلياً، في المقابل فإنها تجاور كتلة جغرافية أساسية هي مصر، ما يجعل علاقاتها الإقليمية أكثر استقراراً، إضافة إلى أن العلاقة بين القوى العسكرية يتجاوز التحالف ويشكل مؤسسة بأجنحة مختلفة.

يوضح الرسم البياني أن الفصائل المسلحة في الشرق الليبي تقدم دعماً قوياً ومتجانساً لحكومة حماد، مع نسبة دعم عالية من قوات حفتر، قوات الصاعقة، اللواء 106، الكتيبة 302، والكتيبة 128، هذا التماسك يعزز استقرار المنطقة ويسهل تنفيذ سياسات الحكومة، ويؤشر لإدارة جيدة للعلاقات مع الفصائل لضمان استمرار التماسك وتجنب التوترات المستقبلية.

الخلافات حول القوانين الانتخابية

تم وضع قوانين الانتخابات من قبل اللجنة المشتركة (6+6)، وعبرت هذه اللجنة عن التوازن القلق الذي يحكم خارطة القوى في ليبيا، فهي مكونة من 12 عضواً مقسمين بالتساوي بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، لكن الخلافات لا تقتصر على التناقض بين الهيئات المختلفة فهناك صراع أيضاً داخل المجلس الأعلى للدولة حول الانتخابات، وهناك كتلة من أعضاء المجلس تُقدر بـ61 عضواً، من أصل 140 عضواً، طالبت بخارطة طريق جديدة، من ضمنها تغيير الحكومة الراهنة، والمطالبون بتلك الخريطة يصرون على رفض شروط الترشح للرئاسة المتضمنة بقانون الانتخابات الذي أقره البرلمان.

كما ينقسم المجلس بين فريق يدعم تعديل الدستور قبل الانتخابات وآخر يعارض، وفيما يخص النظام الانتخابي، يفضل فريق النظام القائم على القوائم الحزبية بينما يفضل آخرون النظام الفردي، ومن جهة أخرى، تنقسم الآراء حول شروط الترشح، حيث يدعم البعض شروطا ًمشددة مثل منع مزدوجي الجنسية من الترشح، بينما يرى آخرون ضرورة تخفيف هذه الشروط، وهناك خلاف أيضاً في التوزيع الجغرافي للدوائر الانتخابية، حيث يرغب فريق بالحفاظ على التوزيع الحالي في حين يطالب آخرون بإعادة التوزيع لضمان العدالة الجغرافية، وتوقيت إجراء الانتخابات نقطة خلاف أخرى، فيفضل البعض إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن، بينما يرى آخرون ضرورة التأجيل لحين تسوية الخلافات السياسية والأمنية، كما يدعم فريق الحوار المفتوح مع مجلس النواب بينما يتبنى آخرون موقفاً أكثر تحفظاً، وبالنسبة للعلاقات الدولية ودور المجتمع الدولي في مراقبة الانتخابات يدعم فريق تعزيز هذه العلاقات وضمان دور المراقبة الدولية، في حين يتحفظ آخرون على التدخل الدولي وتأثيره على السيادة الوطنية.

إن المعطيات السابقة جعلت عبد الحميد الدبيبة يعتمد بشكل كبير على دعم التشكيلات المسلحة وبعض رجال المال والأعمال، هذا الدعم المالي والعسكري يعزز من موقفه في مواجهة الدعوات المتزايدة لتغيير الحكومة الحالية وتشكيل حكومة جديدة تمهد لإجراء الانتخابات، أما محمد تكالة، وبصفته رئيس المجلس الأعلى للدولة وحليفاً للدبيبة، فيلعب دوراً داخل المجلس لتعطيل الجهود الرامية لتشكيل حكومة موحدة جديدة، ويحاول في نفس الوقت تعطيل ظهور مرشحين جدد لرئاسة مجلس الدولة، مثل خالد المشري المعروف بانتقاداته للدبيبة، وعادل كرموس الذي يميل لتسريع التوافق مع البرلمان لإجراء الانتخابات.

إلى جانب ذلك، تخضع ليبيا لتجاذبات إقليمية، فمصر والجزائر وتونس باعتبارها دول جوار، تسعى لتحقيق الاستقرار في ليبيا من خلال دعم مرشحين أو كتل سياسية تتماشى مع مصالحها، بينما تلعب دول حلف الناتو أدواراً أيضاً عبر كتل سياسية وفصائل عسكرية منتشرة في الغرب الليبي على وجه التحديد، وتقوم الولايات المتحدة بدور سياسي نشط في ليبيا، وفي نفس الوقت فإن جهودها الأمنية أيضاً عبر تدريب بعض الفصائل التي تدعم عبد الحميد الدبيبة توضح نوعية مصالحها في دفع بعض القوى التي تعرقل ظهور حكومة واحدة، وبشكل يسرع من إنجاز الاستحقاق الانتخابي.

إن أحد أهم الشروط لإجراء الانتخابات هو تشكيل حكومة موحدة قادرة على الإشراف على العملية الانتخابية، وهذا يتطلب توافقاً لم يتوفر بعد بين مجلسي النواب والدولة على آلية تشكيل الحكومة، وربما على العكس من ذلك هناك مصالح داخلية وخارجية لا تملك أي منافع مباشرة في تحقيق التوافقات لظهور هذه الحكومة.

تبدو التحديات الداخلية، بما في ذلك الصراعات بين مجلسي النواب والدولة، والتدخلات الخارجية المتنافسة، تجعل من الصعب تحقيق التوافق، والقوى الليبية أصبحت تتعامل مع واقع الانقسام أكثر من خلق إرادة توافق، فشبكة المصالح الدولية تعيق هذا الموضوع، والانتخابات أصبحت مأزقاً ليبياً له تبعات إقليمية ودولية من خلال التنافس الدولي على ليبيا وثرواتها.

نضال الخضري

زعيم إصلاحي بريطاني يتهم بلاده بدعم نشأة تنظيم “داعش” في ليبيا

اقرأ المزيد