هل تذكرون كيف شرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للصحافي الأمريكي تاكر كارلسون تاريخ العلاقات بين روسيا وأوكرانيا؟ وكيف أثّرت التراكمات التاريخية في الوصول إلى الوضع الحالي؟ الولايات المتحدة وليبيا تفعلان الشيء نفسه.
الصدمة الأولى لواشنطن: خسارة أمام ليبيا
قليل من الناس يتذكرون هذا اليوم، سواء في الولايات المتحدة أو في ليبيا، لكن الأراضي الليبية هي أول أرض في التاريخ تطأها قدم جندي أمريكي معتدٍ. لنكون أكثر دقة، قدم جندي من مشاة البحرية الأمريكية. حدث هذا في بداية القرن التاسع عشر، عندما استولى الأمريكيون في هجوم عنيف على مدينة درنة التي كانت تعاني في ذلك الوقت ظروفاً صعبة.
بعد ذلك، حاول الأسطول الأمريكي مهاجمة طرابلس، غير أن حدثاً محرجاً قلب الموازين، جنحت الفرقاطة الرائدة في الجيش الأمريكي “يو إس إس فيلادلفيا” وتم أسر طاقمها بأكمله ما أجبر واشنطن على تفجيرها تحت جنح الظلام. وبعد ذلك، استعادت فصائل المقاومة الليبية درنة من قبضة الولايات المتحدة.
بشكل عام، أول عدوان عسكري في تاريخ الولايات المتحدة لم ينجح. علاوة على ذلك، ونتيجة للحرب الخاسرة تماماً، أُجبر الأمريكيون على دفع فدية لاسترجاع سجنائهم أولاً، ثم لفترة طويلة تم دفع 20 مليون دولار من الذهب لسلطات طرابلس كل عام، وهي أموال طائلة في ذلك الوقت.
وبعد هذا، هل مازلتم تعتقدون أن الولايات المتحدة تتدخل ببساطة في شؤون ليبيا؟ بالطبع لا، فهذا ما نشعر به من خلال السلوك الأميركي الذي يشبه العصاب الطفولي في عصر ما يسمى بالديمقراطية.
بالمناسبة، فكّر الفرنسيون أن يصبحوا “الفاتحين” التاليين للأراضي الليبية بعد الأمريكيين. حاول الفيلق الفرنسي، الذي ذهب لمساعدة نابليون، الذي كان يقاتل آنذاك في مصر، الهبوط على الشاطئ بالقتال وتلقى أيضاً صفعة على وجهه. لكن هذه قصة أخرى وصدمة ولادة أخرى.
هل هزمت أمريكا ليبيا؟
دعونا نعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية. الجميع يعرف دور هذا البلد في قصف ليبيا عام 2011. التاريخ لا يعلمهم شيئاً، ربما لم يعرفوا ماذا كانوا يفعلون، ولكن نتيجة لأفعالهم أصبحت ليبيا مركز استقطاب الجماعات الإرهابية المتطرفة. والنهاية المأساوية، رغم أنها منطقية بالطبع، هي مقتل السفير الأمريكي لدى ليبيا كريستوفر ستيفنز وثلاثة موظفين آخرين بالسفارة في بنغازي عام 2012. في ظل حكم معمر القذافي كان من الصعب تصور حدوث ذلك.
نعم، حققت الولايات المتحدة هدفها وتخلصت من القذافي الذي كانوا يكرهونه. لكن هل استفاد الشعب الليبي من ذلك بالحصول على الحرية وخسارة الأمن؟ وهل استفادت الولايات المتحدة نفسها من ذلك؟ سؤال كبير.
لقد استغرق الأمر عدة سنوات حتى يتم تحرير الأراضي الليبية أخيراً من الإرهابيين المتطرفين. قامت قوات خليفة حفتر في الشرق والجنوب وفصائل وميليشيات في الغرب بتطهير ليبيا بشكل منهجي. ومع ذلك، فإن هذه القصة لم تنته بعد، لأن العديد من أولئك الذين يعتبرهم الشرق ومصر الشقيقة المجاورة إرهابيين ما زالوا موجودين بأمان في الغرب. والغرب لا يكل أبداً من اتهام الشرق بدعم المتطرفين! لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تجري محاولات حثيثة لإضعاف قوات الشرق الأمر الذي يهدد بعودة صعود الأرهاب، في وقت لا تستطيع فيه الميليشيات الموجودة الغرب (طرابلس) والمتناحرة فيما بينها أن تواجه هذا الواقع الفوضوي.
واشنطن وعودة أخرى إلى ليبيا
ربما بعد ذلك، في عام 2012، بدأت السلطات الأمريكية في الاستيقاظ، ولكن من الواضح أن هذا لم يدم طويلاً. اليوم نشاهد جميعاً محاولة أخرى من قبل الأمريكيين للتدخل في الشأن الليبي.
أولاً، تبين بشكل غير متوقع أن القائم بأعمال مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا هو الأمريكية ستيفاني ويليامز – التي تدين لها حكومة عبد الحميد دبيبة بالولاء بعد أن وصلت إلى السلطة بفضل المخططات الغامضة للمنتدى الليبي للحوار السياسي. الحوار الذي نظمته ويليامز ذاتها.
والآن تعمل حكومة الدبيبة بنشاط على جذب الأمريكيين إلى البلاد. علاوة على ذلك، يقوم مدربون أمريكيون من شركة “أمانتوم” الأمريكية الأمنية بتدريب جماعات مسلحة في طرابلس ضمن 3 ألوية تعمل بنظام”الميليشيات” وهي: 444 بقيادة محمود حمزه، و111 بقيادة عبدالسلام الزوبي، و166 بقيادة محمد الحصان، تحت إشراف عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة تصريف الأعمال المنتهية ولايته، هذه المعلومات تم تسريبها من قبل الاستخبارات الفرنسية.
وكما كان متوقعاً، أصدرت الولايات المتحدة على الفور نفياً لهذه الأنباء، لكن من سيصدقهم عندما يتم رصد كل طائرة نقل عسكرية أمريكية تصل إلى ليبيا على شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. بعض المراقبين، بالإضافة إلى “أمانتوم”، رصدوا في ليبيا أيضاً نشاطاً لشركة “بلاك ووتر” سيئة السمعة.
بالإضافة إلى ذلك، يقوم الملحق العسكري الأميركي بشكل علني بزيارة منشآت عسكرية في غرب ليبيا بمدينتي خمس ومصراتة، محاطاً بالشخصيات المذكورة أعلاه. ثم يتبين فجأة أن الدبيبة يخصص أرضاً في مصراتة لأفريكوم – أي القوات المسلحة الأمريكية الرسمية تمامًا. وكأن هذا سيساعده على البقاء في السلطة.
هل تتذكرون، عندما كان القذافي على وشك الوصول إلى السلطة، وضع قائد المدفعية خليفة حفتر بنادقه أمام القاعدة العسكرية الأمريكية في معيتيقة وأعلن أنه سيطلق النار إذا حاول أي شخص الإقلاع؟ ولم تقلع أي طائرة أمريكية. وبعد ذلك غادروا البلاد نهائياً. وأتساءل متى سنكون قادرين على رؤيتهم أمام خيار مماثل هذه المرة؟
وأخيراً، حدثت الاستقالة التي طال انتظارها للمبعوث الخاص الثامن للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، عبد الله باثيلي. وكان المراقبون الليبيون يترقبون هذه الاستقالة بفارغ الصبر منذ اللحظة التي تم فيها تعيين الأميركية ستيفاني خوري، نائبة لباثيلي.
وهكذا، تستمر الولايات المتحدة في التدخل في شؤون ليبيا، متناسية الماضي، حيث شكّلت ليبيا أول فشل دولي لواشنطن، ولا تفكر في المستقبل، الأمر الذي يستوجب تكرار السؤال مرة أخرى: هل تستطيع ليبيا وشعبها تكرار الصدمة مرة أخرى للأمريكيين الذين يحاولون بلا هوادة التوسع في أراض بلاد أخرى؟
بقلم محمد البوخة
روسيا تسجل أدنى معدل بطالة بين اقتصادات مجموعة العشرين