لم يعد تفشي الفساد في ليبيا مسألة عادية، فهو يشكل شبكة داخل حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية في طرابلس، ويُكون قوة فاعلة داخل مؤسسات الدولة وعلى الأخص الأمنية منها.
وأصبحت الصحافة الاستقصائية في ليبيا هدفاً واضحاً لشبكة الفساد، حيث يتعرض الإعلاميون لتهديدات وضغوط تصل إلى الاختطاف والاعتقال، وكان اعتقال الإعلامي أحمد السنوسي مثالاً واحدا فقط عما يعانيه الصحفيون جراء وصول الفساد لجهاز الدولة، حيث تعتبر ليبيا من أسوأ عشر دول فساداً في العالم وفقا لمؤشر المنظمة الدولية للشفافية.
وظهرت المشكلة فيها بعد 2011 بسبب عدم الاستقرار السياسي والانفلات الأمني وانتشار المجموعات المسلحة.
استمرار قضايا الفساد
وعلى الرغم من توقيع ليبيا على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، إلا أن هناك تحديات في تنفيذ الاتفاقية وتطبيق القوانين، حيث تواجه المنظمات المختصة بمكافحة الفساد معوقات تحد من فعالية جهودها، والفساد المالي والإداري يشكلان حالة خاصة غالبا ما تؤدي إلى مواجهات حادة مع الصحافة التي تلاحق هذه الملفات.
وتضطر حكومة الدبيبة إلى فتح تحقيقات بشأن قضايا الفساد تحت الضغط الإعلامي أو بفعل تقارير دولية “محرجة” بالنسبة لها، وفي كثير من الأحيان نتيجة الصراعات داخل مؤسسات الدولة، مثل التحقيقات بشأن تقارير بريطانية تحدثت عن وجود ممارسات فساد في قطاع النفط، وهو ما أدى إلى وجود وزيرين في نفس الوزارة.
ومنذ عام 2019 كشف تقرير ديوان المحاسبة الليبي عن تجاوزات مالية كبيرة، حيث تضمنت النفقات للمجلس الرئاسي 32 مليون دينار ليبي، بينما لم يتم توضيح جهة صرف إجمالي 37.431 مليون دينار.
وفي عام 2021 تم حبس وزير الصحة علي الزناتي ونائبه سمير كوكو على خلفية تورطهما في قضايا فساد مالي وإداري، شملت استخدام الأموال العامة بشكل غير قانوني والتلاعب بالمناقصات الحكومية، ومن القضايا الشهيرة ما حدث عام 2021، عندما أودعت مؤسسة النفط مبلغ 2.275 مليار دولار في حساب وزارة المالية، بينما أشارت وثيقة أخرى إلى مبلغ 2.346 مليار دولار، ما يعني وجود فرق بقيمة 71 مليون دولار لم يتم توضيح أسباب هذا الفرق بشكل كامل.
ولكن مسألة النفط لم تكن الملف الوحيد فهناك قضايا تمس الحياة اليومية لليبيين مثل اختلاس معدات طبية في بلدية هراوة، وما سجلته النيابة العامة أيضاً من فساد طال المجالس البلدية، والفساد في البعثات الدبلوماسية، واستمرار تهريب الذهب الليبي حيث وصف مراقبون الوضع في ليبيا بـ”سلطة كليبتوقراطية”، أي “حكم اللصوص”.
قضية اعتقال أحمد السنوسي
في 13 يوليو 2024، تم اختطاف الإعلامي أحمد السنوسي، مالك صحيفة “صدى” الاقتصادية ومقدم برنامج “فلوسنا” على قناة “الوسط”، من قبل الجهات الأمنية التابعة لحكومة الدبيبة، وجاء هذا الاختطاف على خلفية تحقيقات السنوسي في قضايا فساد تتعلق بوزارة الاقتصاد في حكومة الوحدة الوطنية.
وأعلنت حينها مؤسسة “الوسط” الإعلامية في بيان لها أن السنوسي تم احتجازه لدى جهاز الأمن الداخلي، دون توضيح أسباب هذا الاحتجاز أو الكشف عن مصيره، وأثار هذا الاعتقال موجة من الاحتجاجات المحلية والدولية، وأصدرت جريدة “صدى” الاقتصادية وقناة “الوسط” بياناً يدين اختطافه ويطالب بالكشف عن مصيره وتوجيه تهم واضحة له، كما أعرب المركز الليبي لحرية الصحافة عن قلقه من واقعة الاعتقال التعسفي للسنوسي، داعياً الحكومة الليبية إلى التحرك الفوري لإطلاق سراحه.
وكانت عملية الاعتقال التي دامت ثلاث أيام امتداداً لما تعرضت له صحيفة الصدى من ضغوط، حيث تلقت مديرة تحرير صحيفة “صدى” الاقتصادية، إنعام عزوز، في وقت سابق تهديدات ومطالبات بالكشف عن مصادرها الصحفية، وذلك بعد نشرها وثائق رسمية صادرة عن ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، وحسب المعلومات التي تم نشرها لاحقا فأن اعتقال السنوسي جاء بسبب نشره لحقائق واردة في تقرير ديوان المحاسبة عن وزارة الاقتصاد بحكومة الدبيبة، حيث أثار نشر هذه المعلومات غضب بعض قيادات وزارة الاقتصاد، ما دفعها إلى استخدام جهاز الأمن الداخلي لاعتقال السنوسي وترهيبه، ورغم الإفراج عن أحمد السنوسي دون توضيح رسمي لأسباب اعتقاله، لكن الأمر كما يراه الإعلام الليبي شكلاً من الترهيب، ومحاولة لتحييد الإعلاميين عن التعامل في قضايا الفساد، خصوصاً عندما تمس شخصيات حكومية أو مرتبطة بعلاقات مباشرة مع حكومة الدبيبة.
وظاهرة اختطاف الأجهزة الأمنية، أو حتى المجموعات المسلحة، للمسؤولين والنشطاء في غرب ليبيا هي مسألة متفاقمة، وتتجلى في استخدام هذه العمليات كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية ومالية، فضلاً عن تصفية الحسابات.
وتبرز هذه الاختطافات قوة الميليشيات المسلحة وتفاقم ظاهرة الفساد، وتتميز هذه العمليات بتنفيذها من قبل مجموعات مسلحة ذات أجندات متعددة، حيث يُحتجز المختطفون لفترات قصيرة قبل إطلاق سراحهم، وشهدت طرابلس عدة حوادث مثل اقتحام مقر المعلومات والتوثيق بوزارة الاقتصاد، واختطاف مديره حسين اللموشي.
وتوضح صورة الفساد في ليبيا أن الإعلام ليس وحده المستهدف، فكل مؤسسات الدولة يمكن أن تصبح ضحية في حال تعارض مع مصالح مراكز القوى الليبية، والصحافة هنا لم تعد فقط مساحة لكشف الحقائق بموضوعية، بل أيضاً نقطة استهداف رئيسية لمعظم أجهزة الفساد التي باتت ترى فيه تهديداً لها، رغم أن الإعلام الذي ينشر الحقائق لم يصل بعد إلى قوة السلطة الرابعة في ليبيا، فهو مازال جزء من المحاولات التي تسعى لدعم المجتمع الليبي وخلق رأي عام قادر على التأثير.
بقلم نضال الخضر
شقوق أرضية غامضة في ليبيا تثير المخاوف من زلازل محتملة