جاء الحدث الليبي ليغير من خطوط الصراع في شرقي المتوسط، وفتح امتداداً للتنافس السياسي بين تركيا واليونان وذلك مع انحسار القوى الإقليمية الأخرى.
رغم أن التوتر بين أنقرة وأثينا ليس جديداً، إلا أنه اتخذ موقعاً مختلفاً بعد تصاعد العنف في ليبيا منذ عام 2011، فالحرب الليبية لم تكن صراع مصالح دولية بل أيضاً مجالاً لجبهات إقليمية بدأت تتبلور بشكل تدريجي مع المحاولات لإعادة التوازن والاستقرار على أساس اقتسام النفوذ بدل من دعم السيادة الليبية، وهو ما انعكس بشكل مباشر على العلاقات التركية –اليونانية التي شهدت أزمة مرتبطة بقضايا الموارد البحرية والنفوذ السياسي، وظهر على المسرح الليبي جملة من الأزمات بخصوص اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز والنفط.
وضمن المشهد العام فإن تركيا لا تملك منفذاً بحريا يقابل الشواطئ الليبية، لكنها في المقابل امتلكت شكلاً من اتساع النفوذ خلال مرحلة ما يُسمى “الربيع العربي”، خصوصاً عبر دورها في الحدث المصري قبل أن تندلع أحداث العنف في ليبيا.
وفي السنوات الأولى التي تلت عام 2011، كانت تركيا تدعم بشكل عام القوى الإسلامية التي كان لها وجود قوي في الغرب الليبي، خاصة في طرابلس ومصراتة، وأشارت عدة تقارير في تلك المرحلة إلى أن تركيا أقامت علاقات مع بعض فصائل مدينة مصراتة التي كان لها دور بارز في محاربة قوات القذافي.
وأدى الدعم التركي إلى نتائج سياسية على صعيد العلاقة مع حكومة الغرب الليبي التي وقعت في نهاية عام 2019، مذكرة تفاهم لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، ومنحت هذه الاتفاقية تركيا حقوقاً متنازع عليها في الجرف القاري، وأتاحت لها وجوداً عسكرياً في ليبيا، الأمر الذي أثار حفيظة دول متعددة مثل مصر وقبرص،واليونانالتي كانت أشد المعترضين بحكم التناقض التاريخي معتركيا رغم تواجدهما في حلف الناتو.
التحالفات التركية
سعت تركيا عبر هذه الاتفاقية إلى تعزيز نفوذها في شرق المتوسط، وتأمين موقع لها في ظل التنافس على الموارد البحرية، حيث اعتبرت أن دعم حكومة الوفاق الوطني حينهاهو وسيلة لتحقيق توازن إقليمي أمام التحالفات المتشكلة ضد أنقرة، وخاصة الجبهة التي تضم اليونان وقبرص ومصر، واعتبرت أنقرة أن الاتفاق مع حكومة الوفاق الوطني يملك شرعية بحكم أن حكومة الوفاق هي المعترف بها دولياً.
وتستند الرؤية التركية إلى عدة نقاط استراتيجية:
- تعزيز النفوذ الإقليمي، فتركيا تسعى لموازنة التحالفات الإقليمية المناهضة لها من خلال دعم حكومات محلية مثل حكومة الوفاق الوطني.
- التحكم في الموارد البحرية حيث تمنح الاتفاقية أنقرة حقوقاً في التنقيب عن الموارد البحرية، ما يعزز من قدرتها على التحكم في مصادر الطاقة.
- الوجود العسكري التركي في ليبيا يعزز من القدرة التركية على التأثير في مجريات الأحداث الداخلية الليبية ويضمن لها موقعاً استراتيجياً في المنطقة.
وأظهرت الاتفاقية الليبية – التركية فرصة متجددة أمام أنقرة في تطوير قوتها الإقليمية،حيث بدت ليبيا مساحة خاصة في السعي التركي لخلق تحولات عميقة في دور أنقرة الإقليمي والدولي، والتعامل بشكل مختلف مع موارد الطاقة التي تفتقدها تركيا.
الموقف اليوناني
واعترضت اليونان بشدة على الاتفاقية التركية– الليبية واعتبرتها انتهاكاً للسيادة اليونانية ولقانون البحار الدولي، فالمياه المتنازع عليها بالنسبة لأثينا تقع ضمن الجرف القاري اليوناني.
وتستند اليونان في ذلك إلى القانون الدولي الذي يحدد الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة بناءً على السواحل المتقابلة، كما تعتبر اليونان أن التنقيب التركي في هذه المناطق غير قانوني، وشملت الرؤية الاستراتيجية لها:
- حماية السيادة الوطنية: وحقوقها في الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة.
- التعاون الإقليمي والدولي: حيث سعت أثينا لتعزيز تحالفاتها مع دول أخرى في المنطقة مثل قبرص ومصر، وكذلك مع الاتحاد الأوروبي لدعم موقفها في النزاع.
- التصعيد الدبلوماسي والعسكري حيث لم تستبعد اليونان استخدام القوة العسكرية للدفاع عن حقوقها، مما يشير إلى استعدادها لاتخاذ خطوات تصعيدية إذا لزم الأمر.
عملياً اكتفت اليونان بالاعتماد على القانون الدولي لتعزيز موقفها في النزاع مع تركيا، فهي حاولت تجنب الوصول بالتوتر إلى حالة غير مسبوقة على مستوى حلف الناتو، خصوصاً في ظل الضغوط الاقتصادية التي كانت تعيشها، ولجأت نحو عمقها الأوروبي بالدرجة الأولى، حيث لا تملك خطوط تواصل مباشرة مع القوى الليبية المتنازعة، وعدم استبعادها اللجوء إلى القوة العسكرية للدفاع عن حقوقها، كان في الواقع شكلا سياسياً أكثر منه عسكرياً، فهذا الموقف كان في النهاية محاولة لزج الاتحاد الأوروبي في عمق نزاعها مع أنقرة.
وكان الخاسر الرئيسي من هذا النزاع هم الليبيون الذين أصبحوا بطيفهم السياسي والاجتماعي جزء من الأطراف المتنازعة، فحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا اعترضت على قيام اليونان بأعمال تنقيب جنوب كريت، معتبرة ذلك انتهاكاً لسيادتها، لكن هذا الاتجاه كان جزء من الانقسام الداخلي وخضوعها للصراعات الدولية والإقليمية.
ووجود القوات الأجنبية، سواء التركية أو غيرها، يعقد الوضع الداخلي ويزيد من التوترات، فالموقف الليبي هو الحلقة الأضعف ليس فقط بسبب الانقسام الداخلي والتدخلات الأجنبية، بل أيضاً بسبب حالة الاستقطاب الذي فرضته القوى الدولية والإقليمية داخل محاولات الاستقرار الذي تبحث عنها المبادرات الدولية.
ورغم أن النزاع التركي – اليوناني هو ضمن “الصراعات الباردة نتيجة تأثيرات القوى الدولية الأكبر، لكنه في النهاية جزء من التوترات التي يمكن أن تشتعل في حال إنهيار العملية السياسية أو حتى تصاعد التوتر الدولي عموماً الذي ينعكس على الجبهات في العالم بما فيها ليبيا، فالسيناريوهات المتوقعة تبدأ من اللجوء إلى محكمة العدل الدولية وصولاً إلى التصعيد العسكري الذي يبدو بعيداً اليوم، أو حتى استمرار الوضع الراهن الذي يحمل معه توترات ومناوشات بين الأطراف المتنازعة، وهو ما يطيل أمد النزاع ويزيد من تعقيد الوضع الليبي.
ويعكس النزاع بين تركيا واليونان حول ليبيا تداخل المصالح الإقليمية والدولية في شرق المتوسط، وفي ظل هذا النزاع، تظل ليبيا رهينة للصراعات الخارجية والنفوذ الأجنبي، مما يعقد مساعيها لتحقيق الاستقرار الداخلي والسيادة على أراضيها ومواردها.
بقلم نضال الخضري
فوضى المجموعات المسلحة في طرابلس.. وفشل الدبيبة في التعاطي معها