بعد سنوات من دعم تركيا الغرب الليبي المضطرب وحكومة طرابلس، تحاول أنقرة مواكبة التغييرات السياسية التي شهدتها المنطقة، عبر التوجه نحو الشرق الليبي الأكثر استقراراً، ما يفتح الباب أمام حقبة جديدة من طبيعة العلاقات التركية في ليبيا.
يبدو مسار العلاقات التركية مع ليبيا مرتبطاً مع بحث حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان عن تعزيز نفوذ أنقرة في البحر الأبيض المتوسط، ومحاولة المنافسة في عملية التنقيب عن النفط والغاز التي ظهرت كنقطة أساسية في السياسة التركية، فهي أرادت تأكيد حقها في مسألة حقول الغاز في المتوسط، وذلك وسط تخوفها من حصول قبرص على امتيازات في هذا الأمر، فالتدخل التركي في ليبيا أثار أزمة سياسية حادة لم تقتصر على ليبيا لأنها طالت شرقي المتوسط، وأخلت عملياً بالتوازن في العلاقة ما بين تركيا واليونان، وذلك مع انحياز أثينا للموقف الذي اتخذته قبرص من تحركات تركيا تجاه ليبيا.
تركيا وبداية التدخل
بدأ التدخل التركي في ليبيا بشكل رسمي في يناير 2020، عندما وافق البرلمان التركي على إرسال قوات لدعم حكومة الوفاق الوطني التي كانت تحارب قوات المشير خليفة حفتر، وجاء هذا التدخل بعد توقيع مذكرة تفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني في نوفمبر 2019، تتعلق بالتعاون الأمني وتحديد الحدود البحرية، ما أعطى تركيا حق استغلال الموارد في شرق البحر المتوسط، وبدأت بنشر قواتها ومعداتها العسكرية حيث أعلنت أنقرة في مارس 2020 عن عملية “عاصفة السلام” لدعم حكومة الوفاق الوطني، حيث استعادت مناطق ساحلية هامة.
مكن التدخل التركي من إعادة سيطرة قوات حكومة الوفاق الوطني على العاصمة طرابلس، وخلف هذا الأمر توتراُ سياسياً خصوصاً بين مصر وتركيا، حيث بدت القاهرة مستاءة منذ بداية العلاقة وعلى الأخص في مسألة ترسيم الحدود البحرية، إلا أن العلاقات بين البلدين عادت للتحسن في عام 2021، مع بدء محادثات استكشافية بين البلدين، وفي عام 2023، تم تبادل الزيارات بين المسؤولين من البلدين، بما في ذلك زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لأنقرة وزيارة نظيره التركي مولود جاويش أوغلو للقاهرة، تلتها زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مصر يوم 14 فبراير و كان لها معان تتجاوز تطبيع العلاقات بين البلدين ورفعها للمستوى المطلوب إلى إنشاء محور جيوسياسي جديد.
التحول التركي نحو الشرق الليبي
يمكن اعتبار زيارة قائد القوات المسلحة الليبية، المشير خليفة حفتر، إلى تركيا ولقائه بوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، مؤشراً على تحول ملحوظ في العلاقات تحاول إنهاء توتر سياسي عام لم يقتصر فقط على الصراع العسكري مع الشرق الليبي، بل أيضاً في علاقات أنقرة مع الشمال الإفريقي، فهي تحاول الآن إعادة تموضعها السياسي بعد تسوية خلافاتها مع مصر، فالتقارب يهدف للتأثير على مستويات متعددة من الحوار والتفاهم، ويطرح مساراً سياسياً جديداً يمكن قراءته عبر نقطتين:
- الأولى نظرة أنقرة إلى الوضع في طرابلس في ظل عجز حكومة الدبيبة في السيطرة على الوضع في غرب ليبيا، وعدم امتلاكها لأي تصور سياسي تجاه بناء علاقات ليبية متكاملة على كافة الأراضي الليبية، ففي الغرب الليبي هناك عوامل سياسية دولية كثيرة، وهو ما يجعل الدور التركي محدوداً رغم الدعم الكبير الذي قدمته لحكومة طرابلس، فتركيا لا تسعى فقط لإيجاد توازن في علاقاتها بين الشرق والغرب، بل أيضاً فتح أبواباً أكبر أمام المصالح التركية في منطقة ليبية مستقرة.
- الأمر الثاني هو البحث عن دور مختلف في أي تفاهم سياسي بين الأطراف الليبية، فأنقرة تحاول حالياً تأسيس موقع الوسيط السياسي والشريك في تسهيل عملية الحوار بين الأطراف في الشرق والغرب الليبيين.
بالتأكيد لا يمكن إهمال الأهمية الاقتصادية لشرق ليبيا وذلك مع التركيز التركي على قطاعي النفط والغاز، حيث تعمل أنقرة على تعزيز استثماراتها في هذه القطاعات، وذلك من خلال إعادة تفعيل وتحديث منظومات الطاقة والاتصالات الليبية، وهو ما تؤكده زيارات فريق الخبراء التركي لمحطات الطاقة في بنغازي ومراكز التحكم المحلية، وهذه الجهود لا تهدف فقط إلى تعزيز البنية التحتية ولكن أيضاً لإعادة تأهيل العلاقات التركية-الليبية على أساس المنفعة المتبادلة.
بالنسبة لتركيا فهي لا تملك حدود لعلاقاتها مع الشرق الليبي بما فيه التعاون العسكري، ورغم أنه لم تظهر أي مؤشرات على مثل هذا الأمر، لكن الواضح أن الطموح التركي في شرق ليبيا يمكن أن يشكل محوراً رئيسياً يؤثر على المعادلة السياسية الليبية عموماً، فالتوجه التركي نحو الشرق الليبي لا يأتي في فراغ، بل يعكس استراتيجية أوسع نطاقاً تهدف لتعزيز الدور التركي في شمال إفريقيا والمتوسط، والسياسة التركية تسعى للموازنة بين الدعم السياسي والعسكري لحكومة الوفاق في طرابلس، المنتهية الولاية، وبناء علاقات مع كافة الأطراف في ليبيا، وهذا النهج المتعدد الجوانب يسمح لأنقرة بلعب دور محوري ويجعلها شريكاً سياسياً في العملية السياسية الليبية.
هناك استراتيجية تركية تجاه الشرق الليبي تتبلور حالياً، وذلك بعد عقود من تركيز أنقرة على محيطها الأسيوي بالدرجة الأولى، فأنقرة تريد التأثير على تشكيل ديناميكيات القوة في شرق ليبيا وتغير محاور الدعم القائمة حالياً، وهو ما سيوجد تفاعلات سياسية واقتصادية جديدة، فتركيا لا تسعى فقط لتحقيق مكاسب اقتصادية، بل أيضاً ضمان وجود دور فاعل ومستدام في الساحة الليبية.
نضال الخضري
إسماعيل هنية يصل إلى القاهرة لبحث هدنة جديدة