تتجاوز أزمة وزارة النفط الليبية الخلافات الداخلية لحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، فهي تطرح مشهدا يلخص الصراع الإقليمي والدولي على ليبيا، وتطرح تناقضات اقتسام السلطة عبر الولاءات الخارجية.
ضمن تصور أولي فإن وجود “وزارتي” نفط داخل حكومة واحدة يشكل سابقة على المستوى السياسي، ويقدم مساحة من العجز عن إدارة الموارد الليبية لتصبح جزء من عملية احتكار الثروة لدولة تُعد من أغنى دول العالم بالثروات النفطية، حيث تصبح الاحتياطيات الضخمة من النفط والغاز جزء من الاشتباك السياسي، ومحدد أساسي في أي عملية حوار قادمة، فالنفط الليبي يعيد تشكيل القوى الداخلية ويبنى هامشا عريضا حول مؤسسات دولة، تنشط فيه التدخلات الخارجية في محاولة للتأثير على القرارات السيادية الليبية.
خلفية النزاع على وزارة النفط
أزمة وزارة النفط الليبية تحمل معها سيناريو التلاعب الحكومي بأشكال الإدارة لكافة مؤسسات الدولة، فهو سيناريو نموذجي يمكن عبره قراءة التشكيلة الحكومية القائمة فقط على اقتسام النفوذ والاستناد إلى الاستثمارات المحتملة، ومفاصل الأزمة توضح أن العمل الحكومي أصبح يستند إلى مراكز قوى تستخدم التشريعات لتنفيذ “أجندات” مرتبطة فقط بتكرس التناقضين السياسي والاقتصادي.
عمليا ظهر السيناريو وفق خط واضح بدأ مع إيقاف هيئة الرقابة الإدارية وزير النفط والغاز في حكومة عبد الحميد الدبيبة، محمد عون، عن العمل مؤقتاً في مارس 2024، وذلك على خلفية تحقيقات حول مزاعم بارتكاب مخالفات مالية، وبعد يومين، قامت الحكومة المؤقتة بتعيين خليفة عبد الصادق بديلاً له، ثم تم إعادة عون لمنصبه بقرار من هيئة الرقابة في مايو، إلا أن التنافس بينه وبين عبد الصادق على الصلاحيات استمر، ما أدى إلى حالة من الارتباك داخل الوزارة.
ما حدث شكل ظاهرة متعمدة تجعل وزارة النفط ضمن مرجعيتين إداريتين، وخلقت في نفس الوقت انقسام حول مبررات هيئة الرقابة الإدارية في إيقاف عون، وبغض النظر عن وجهات النظر بشان هذا الإيقاف إلى أنه أوجد ضمن الوزارة الواحدة التي تعتبر الأهم في تقديم إيرادات الدولة حالة استثنائية تحمل معها أمرين:
- الأول أن قرار الإيقاف سياسي بامتياز لأنه حمل معه انقساما سياسيا وليس إحالات قضائية يمكن أن توضح حقائق وطبيعة ما يجري في مؤسسات الدولة.
- الثاني ما كشفه القرار من تناقضات داخل مؤسسات الدولة التي تباينت مواقفها حيث أدانته أحزاب سياسية وأعضاء في المجلس الأعلى للدولة، بينما تجاهلته قوى أخرى داعمة لحكومة الدبيبة ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة.
بالتأكيد فإن هذا الشكل من الصراع الحكومي يتكرر دائما ضمن المؤسسات السيادية، وهو يعيد مسار صراع حكومة الدبيبة مع حاكم مصرف ليبيا، الصديق الكبير، ويوضح أن المؤسسات الحاكمة الليبية لا تحمل معها تناقضات داخلية فقط بل تمثل أيضا صراعا على المستوى السياسي العام.
صراع الشركات الإقليمية والدولية
يعتبر وجود وزيرين يتوليان نفس الحقيبة شكلا من الإرباك على مستوى أداء الدولة، وفي الحالة الليبية فهو يمنح أكثر من طرف حرية اتخاذ قرارات مرتبطة بالنفط الذي يشكل شريان الحياة الليبية، فالمسألة تتعدى التعليمات المتضاربة من كلا الوزيرين وتشكل مؤشرا على حالة أعمق تحمل معها ثلاث أمور أساسية:
- طبيعة الملفات النفطية المرتبطة بشركات أوروبية أو حتى تركية وعربية، فخلق حالة اقتسام داخل وزارة النفط يعكس خلافات عميقة مع رئيس الحكومة المؤقتة مرتبطة بمنح امتيازات لشركات مثل إيني الإيطالية وأدنوك الإماراتية وشركة الطاقة التركية.
ما حدث في وزارة النفط يوضح بعض الأدوار الإقليمية عبر الشركات والاستثمارات، فتركيا تلعب دوراً بارزاً في ليبيا من خلال دعم حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، حيث تسعى إلى تأمين عقود نفطية لشركاتها وتعزيز نفوذها في البحر المتوسط، في المقابل تدعم الإمارات القوى في بنغازي وتحاول تأمين حصص من الثروات النفطية الليبية.
- أحد جوانب ما حدث هو التنافس الإيطالي – الفرنسي على النفوذ في ليبيا، حيث تعتبر إيطاليا ليبيا منطقة نفوذ تقليدية لها نظراً للقرب الجغرافي والعلاقات التاريخية، وتسعى الشركات الإيطالية مثل إيني إلى تعزيز وجودها في قطاع النفط الليبي، في المقابل، تسعى فرنسا إلى تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال دعم القوات المناوئة لحكومة طرابلس، أملاً في تأمين عقود نفطية لشركاتها.
ليس هناك أي جديد في التنافس الإيطالي – الفرنسي، ففي كافة مفاصل الأزمة الليبية كان هناك تناقض بين باريس وروما، وهذا التنافس الشرس مرده الأساسي المصالح الاقتصادية والاستراتيجية لكل دولة منهما، وتحديدا ورقة النفط وعقود شركاتهم النفطية وهما “توتال” الفرنسية و “إيني” الإيطالية.
- الورقة المفصلية تبقى عند عبد الحميد الدبيبة الذي يسعى إلى إبرام عقود مباشرة مع بعض الشركات، متجاوزاً وزارة النفط، ويعتقد أن هذا التوجه هو ما أدى إلى تأخير عودة عون إلى منصبه بشكل كامل، خشية أن يعارض هذه الصفقات.
يعزز الدبيبة الخلاف داخل وزارة النفط وكان لحضور خليفة عبد الصادق بدلاً من عون في اجتماع الدول المنتجة للنفط (أوبك) مؤشرات حول دعم الدبيبة لعبد الصادق، وهذا الأمر سيؤثر بالتأكيد على مسيرة إصلاحات المؤسسة الوطنية للنفط وجهود رفع معدلات الإنتاج من مليون ونصف برميل إلى مليوني برميل يومياً.
يؤدي التنافس الإقليمي والدولي إلى زيادة تعقيد المشهد السياسي في ليبيا ويعزز من حالة عدم الاستقرار في قطاع النفط، وهذا الأمر سيظهر بشكل أقوى في أي حوار سياسي قادم أو حتى احتمالات اجراء انتخابات عامة في البلاد، فالجهود الدولية تبقى ضمن مساحة نظرة الغرب إلى ليبيا كجغرافية للثروات وليس كدولة ذات سيادة وشعب يبحث عن الاستقرار والتنمية.
بقلم مازن بلال
الإنفاق الأمني في الغرب الليبي: تكاليف بالملايين وأمن منخفض