نجاح الانتخابات الليبية بات مرهوناً بهامش ضيق من التوافقات الممكنة، فهناك تصورات متباينة لأهداف هذه الانتخابات ولمسارها المتعثر.
يتحرك مسار إنجاز الانتخابات في ليبيا وفق استراتيجيات دولية متباينة، فإمكانية إجرائها قبل نهاية عام 2024، مرهون عملياً بالضغط على الأطراف الليبية لقبول الأمر الواقع الذي أنتجته تداعيات الحرب الليبية، فالديمقراطية التي سيتم تكريسها مستندة إلى مسألتين أساسيتين: الأولى الشرعية التي ستظهر بعد الانتخابات والقائمة أساساً على التوازن القلق الذي يعكس حالة الانقسام، والثانية مرتبطة بتشابك هذه الشرعية مع الدعم الدولي لهذا التوازن، وهذا ما أكده رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، في تصريحاته الصحيفة مؤكداً على الاستعداد لهذه الانتخابات، والجاهزية من الناحية التشريعية واللوجستية؛ لكنه في المقابل يشدد على الدعم الدولي لضمان نجاحها.
لكن تصورات عقيلة صالح للمسار الانتخابي لا تبدأ من خطوة مطلقة مرتبطة بالتصويت لإنتاج شرعية، فتشكيل حكومة واحدة تجمع الشرق والغرب هي القاعدة التي يمكن التأسيس عليها، وتبدو هذه النقطة إشكالية لأبعد الحدود نظراً للتباينات التي تطفو على ساحة السياسة الليبية، فتداعيات الحرب لم تنتج خارطة سياسية ليبية جديدة، إنما توزعاً سياسياً على مستوى الأقاليم، وهو ما يجعل أي عملية ديمقراطية مرهونة بالتباينات الناتجة عن غياب الدولة القوية القادرة على خلق مصالح ليبية مشتركة.
فالتفاؤل الحذر الذي أبداه صالح بشأن الانتخابات ظهر مرهوناً بالمفاوضات مع مجلس الدولة للتوصل إلى آلية موحدة لتشكيل حكومة واحدة؛ تستطيع إنجاز العملية الانتخابية دون توترات أو تشكيك بالنزاهة، وهذا الموضوع يؤكد عليه أيضاً عضو مجلس النواب الليبي، فتح الله السريري، حيث يعتبر هذه الحكومة ضماناً لاستقرار البلاد وفعالية العملية الانتخابية، لكنه في المقابل ينتقد بشكل مباشر التدخلات الأجنبية التي تسببت في تأخير حل الأزمة الليبية.
توازنات داخلية وإقليمية
ما يؤخر الانتخابات لا يرتبط فقط بالترتيبات الليبية الداخلية، فهذا الأمر وفق المعطيات العامة بات مرتبطاً بطبيعة النفوذ الإقليمي وحتى الدولي في التوازنات الليبية الداخلية، فعندما انتقد عقيلة صالح التدخلات الخارجية فإنه نقل أحد جوانب تعقيد العملية الانتخابية، حيث تبدو الانتخابات اختباراً للتوازنات الإقليمية التي تملك مصالح داخل الواقع الليبي الحالي، وهو ما جعل مهمة المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا، عبدالله باتيلي، مستحيلة كونه يفاوض الأطراف الدولية والإقليمية من خلال القوى الليبية التي تستند في الغالب على دعم إقليمي أو دولي، فالاستقرار الليبي متعدد الأوجه فهو يبدأ بالانتخابات التي تقوم على توافقات أوسع من المساحة الليبية، وتجسد في نفس الوقت تناقضات على مستوى الصراع على الشمال الإفريقي عموما.
يتضح هذا التناقض بشكل مباشر في الخلافات بين المجلس الأعلى للدولة والبرلمان، فكلا المؤسستين تسعيان لرسم ترتيبات مختلفة لضمان التوازنات داخل البلاد، بينما تأتي حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد دبيبة ضمن سقف التأزم كونها تمثل توازنات المصالح الغربية، وتضعها على قاعدة خاصة من التشكيلات المسلحة التي تضمن قوة لبقاء تلك الحكومة رغم كافة الظروف السياسية التي عصفت بها.
وينعكس هذا الموضوع على الجهود الدبلوماسية للنظام العربي، فالاجتماع الذي تم في مارس الماضي تحت مظلة جامعة الدول العربية، والذي اقتصر الحضور فيه على محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي، وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب، ومحمد تكالة رئيس مجلس الدولة، ورفض أي تدخلات خارجية سلبية في العملية السياسية الليبية، وأكد على ضرورة تشكيل حكومة موحدة للإشراف على العملية الانتخابية وتقديم الخدمات الضرورية للمواطن، لكن نتائج الاجتماع بقيت تصريحات فقط في ظل التوازن الدولي والصراع الغربي على المصالح النفطية في ليبيا.
الانتخابات.. والحكومة الموحدة
موضوع الانتخابات وعلاقته بالحكومة الموحدة ليس جديدا، ففي عام 2021 تولى عبد الحميد الدبيبة قيادة المجلس الوطني الانتقالي؛ وكانت مهمته إجرائية فقط لضمان إجراء الانتخابات، وذلك وفق شرط أساسي هو أن لا يشارك فيها، لكن ما حدث عكس تعقيد الوضع المحيط بالانتخابات وطموحات الدبيبة في التحكم بالعملية السياسية، فتم إلغاء الانتخابات في اللحظة الأخيرة، وترشح الدبيبة لرئاسة البلاد.
فالعملية الدستورية المعطلة نتجت عن أزمة ثقة خلقها المجلس الوطني الانتقالي كمنظم محتمل للانتخابات، ومن هذه النقطة بدأ التركيز على تشكيل حكومة جديدة، وبقيت الآراء حولها وفق الولاءات التي ظهرت سواء عبر حرص الدبيبة على رعاية حالة سياسية معاكسة للشرعية، أو من خلال استفادة المصالح الغربية من حالة الانقسام، فإمكانية أن تمثل “الحكومة الموحدة” نقطة انطلاق نحو إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تعد نقطة إشكالية لبعض الأطراف، فالمادتان 86 و90 من قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، تنصان على ضرورة وجود حكومة موحدة للبلاد لا تشارك في الانتخابات كشرط لبدء تطبيق هذه القوانين، والخلافات حول تشكيل الحكومة عرقلت تنظيم الانتخابات في ليبيا، وهي مرهونة بثلاثة أمور أساسية:
• طبيعة الدعم الدولي الذي سيقدم لهذه الحكومة، فنجاحها في دعم العملية الانتخابية لا يقف عند حدود التوافق الداخلي بشأنها، بل أيضا بمطابقتها لمعايير محددة سلفاً من قبل الولايات المتحدة، فعدم ظهور هذه الحكومة يشكل رحلة استنزاف سياسي تمارسه واشنطن، قبل أن تتدخل بعد إضعاف كافة الأطراف لتنتج حكومة على قياس التوازنات القلقة التي خلفتها الصراعات في ليبيا.
• اعتبار الحكومة الموحدة جزء من محاولة ترجيح طرف على حساب آخر، على الأخص أن حكومة عبد الحميد الدبيبة ترى أن هذا الإجراء موجه ضدها، وفي المقابل فإن أوروبا والولايات المتحدة متحفظة حالياً على استبعاد الدبيبة كطرف سياسي تربطه بالغرب شبكة مصالح وعلاقات.
• طبيعة التقارب بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، فالتوترات ممكنة نظراً لاختلاف الأساس التشريعي لكلا المجلسين، فمجلس النواب منتخب أما المجلس الأعلى للدولة فتم تعيينه كهيئة استشارية عليا للدولة.
بشكل عام فإن تصريحات صالح حول الانتخابات الليبية، تشكل اختباراً لكافة القوى الليبية في قدرتها على التعامل مع كافة التوازنات الحرجة وتداخل المصالح الخارجية مع خارطة توزع القوى المحلية الليبية، فاحتمالات إجراء الانتخابات تبقى في النهاية ضمن مساحة من كسب الأوراق السياسية على الصعيد الدولي، أما محلياً فإن مساحة العمل الديمقراطي الليبي تحتاج إلى سياق سياسي مختلف تماماً يسعى لرسم مصالح الشعب الليبي بشكل يؤدي إلى تجميع خارطة سياسية ليبية جديدة.
بقلم نضال الخضري
صراع النفوذ.. هل تستعيد الولايات المتحدة عقب الانتخابات مكانتها في ليبيا؟