تنطلق الانتخابات البلدية في ليبيا من التركيز على الهامش السياسي للأزمة، فهي ليست محاولة لبناء الديمقراطية بقدر كونها انعكاس لعجز الأطراف الدولية على التوافق حول الوضع الليبي.
ويأتي إعلان المفوضية العليا للانتخابات عن بدء التحضيرات لانتخابات المجالس البلدية؛ في وقت يستعد مجلس الأمن للبحث عن تعيين رئيس جديد للبعثة الأممية بعد استقالة عبد الله باتيلي، إضافة لما ستقدمه القائمة بأعمال بعثة الأمم المتحدة، ستيفاني خوري، عبر إحاطتها حول الوضع الليبي، ورغم أن الانتخابات البلدية لا تؤثر كثيرا في التكوين السياسي أو حتى في التناقضات بين الأطراف المتنازعة، لكنها في المقابل تشكل اختبارا لقدرة مؤسسات الدول على التعامل مع حدث بهذا الحجم.
عمليا بدأت العملية الانتخابية لستين مجلسا بلديا من أصل 106، وهي تمثل المجموعة الأولى من الانتخابات التي ستنتشر عبر مختلف المناطق في ليبيا، وهي تبدأ بمرحلة تسجيل الناخبين التي ستستمر وحتى 23 يونيو 2024، وتهدف إلى إعداد القوائم الانتخابية وتجهيز الناخبين للمشاركة في اختيار ممثليهم في المجالس البلدية وفيما رحبت بعثة الأمم المتحدة بهذه الخطوة، مشجعة جميع الليبيين، وخاصة النساء والشباب، على التسجيل والمشاركة الفعالة في هذه العملية الديمقراطية، إلا أن المؤشرات لا تعطي أي دلائل على أن الانتخابات البلدية ستؤثر بشكل مباشر على الوضع السياسي العام في ليبيا، فهي توفر فرصة لتعزيز المشاركة المدنية وتحسين الخدمات المحلية.
المجالس البلدية.. رؤية أولية:
في عام 2012، تم إقرار قانون جديد للإدارة المحلية، ينص على إجراء انتخابات بلدية في كل البلديات، وبدأت أول انتخابات في أواخر عام 2013 واستمرت حتى 2014، ورغم أن هذه الآلية يمكن أن تدعم النظام العام في البلاد عبر تمكين المجتمعات المحلية من إدارة مواردها، وترسيخ عملية تنموية مستدامة تساعد لاحقا في دعم العملية الديمقراطية على المستوى السياسي العام، إلا أن الانتخابات المحلية الليبية واجهت أمرين أساسيين:
- الأول أن المجتمعات المحلية ومن يمثلها في البلديات واجهت “قوى الأمر الواقع”، سواء الفصائل المسلحة أو حتى الأشخاص المرتبطين بها بشكل غير مباشر، فالأثر الأساسي لهذه المجالس داخل المجتمعات المحلية كان محاصرا بشبكة من المصالح المرتبطة بمراكز القرار السياسي الأعلى، أو حتى بالضغوطات التي تمارسها المجموعات المسلحة على الأرض.
الانتخابات البلدية جاءت عملياً انعكاساً لكافة التوازنات الناتجة عن سنوات الحرب، ومثلت أيضاً الوضع القبلي في كافة المناطق الليبية ما دفع إلى تعديل جذري في الانتخابات الحالية يمنع الترشح في نفس القائمة للأقرياء حتى الدرجة الرابعة، وضمن هذه الحالة فإن منظمي الانتخابات يريدون تمثيلاً أفضل، ولكن يبقى هنا التأثيرات الأعلى المرتبطة بالعلاقات داخل المجتمعات المحلية التي تخضع لروابط مختلفة عن الطريقة التي تسير فيها الانتخابات.
- تبدو الانتخابات أساسية لتعزيز الحكم المحلي والمشاركة الشعبية في الحكم، فهي تؤسس لحالة من اللامركزية يمكن أن تخفف من التناقضات بين القوى السياسية التي أدت لظهور حكومتين في طرابلس وبنغازي، فتعزيز الحكم المحلي يخلق مسارات جديدة على المستوى الشعبي، ويمكن عبر هذا الأمر تكريس مؤسسات ديمقراطية.
لا تمتلك المجالس البلدية صلاحيات واسعة على الأخص على مستوى ما تقدمه الحكومة المركزية من ميزانية للبلديات، ما يقلل من تأثير الانتخابات على حياة المواطنين، فمعظم الصلاحيات بيد الحكومة المركزية، وقدرة المجالس البلدية على اتخاذ قرارات مستقلة وتنفيذ مشاريع تنموية فعالة تبقى ضمن “مظلة” الانقسام السياسي، أو حتى في مساحة العجز عن إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، فكل منطقة تديرها لجان انتخابية مستقلة وتعمل بقوانين مختلفة، وهذا الانقسام ينعكس على العملية الانتخابية رغم كافة الإجراءات التي تحاول جعلها حالة تؤسس لمستقبل ليبي جديد.
تحديات مختلفة
حسب قانون الانتخابات المعتمدة تتكون المجالس البلدية في البلديات التي يزيد عدد سكانها عن 250 ألف نسمة من تسعة مقاعد، بينما تتكون المجالس في البلديات الأصغر من سبعة مقاعد، ويتضمن النظام الانتخابي شروطا خاصة، منها جمع أرقام الناخبين وتقديم طلبات الترشح وفقا لنظام جديد يعتمد على الإقامة في البلدية المستهدفة، ويهدف القانون إلى الحد من تأثير التحالفات القبلية والعشائرية التي يمكن أن تسيطر على المجالس البلدية، ويمنع القانون وجود صلة قرابة بين المرشحين في القائمة الواحدة حتى الدرجة الرابعة.
لكن كافة التفاصيل لا تنطلق من موقع ليبي خاص، فرغم أن الانتخابات تجري وفق اعتبارات محلية لكنها في نفس الوقت تتأثر بالواقع الدولي العام، فالولايات المتحدة وسفارات دول أخرى رحبت ببدء عملية تسجيل الناخبين، معتبرة أن الانتخابات البلدية تشكل فرصة حيوية لإثبات جدوى البنية التحتية الانتخابية في ليبيا، كما أكدوا على أهمية الانتخابات كوسيلة لتعزيز الديمقراطية والتعامل مع القضايا المحلية الهامة.
لكن الترحيب لا يعبر عن عمق النظر إلى هذا الحدث بالنسبة للحالة الإقليمية والدولية المؤثرة على كافة التوازنات الليبية، فالدول المجاورة لليبيا، مثل مصر، الجزائر، وتونس، لها مصالح مباشرة في استقرار ليبيا نظرا للقرب الجغرافي والتداخلات الاقتصادية والأمنية، وتسعى إلى تعزيز مرشحين أو كتل سياسية ولو على مستوى الانتخابات المحلية، فهي تعتبرها أوراقا هامة في آلية تمرير مصالحها على المستوى الاقتصادي أو حتى في التأثير عبر المجتمعات المحلية في رسم خيارات سياسية متعددة
على المستوى الدولي، الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لها تأثيرات بارزة على العملية الانتخابية في ليبيا، سواء من خلال بعثات المراقبة أو الدعم الفني والمالي للمفوضية العليا للانتخابات، كما أن لروسيا دور قوي رغم اختلافه عن باقي الأدوار الأخرى، وذلك عبر المشاريع التنموية المختلفة والمرتبطة بشكل مباشر مع المجتمعات المحلية، إضافة إلى ذلك، فإن دولا مثل الإمارات العربية المتحدة، قطر، وتركيا لها مصالح استراتيجية في ليبيا وتدعم أطرافا مختلفة بما يتماشى مع أجنداتها الخاصة، وتستخدم هذه الدول مجموعة واسعة من الأدوات بشكل يلغي أي أمل في الحالة الديمقراطية التي يتحدث عنها الغرب عموما، فتعزيز حلفاء محليين يشتت العملية السياسية ولا يساعد في تطوير مسار نحو انتخابات رئاسية أو برلمانية.
تعتبر الأدوار الإقليمية والدولية في الانتخابات البلدية الليبية عاملاً خاصاً يؤثر على كيفية تشكل السياسات المحلية، وهو يخلق مصالح ضيقة في أغلب الأحيان يتنافى مع سيادة الدولة وقدرتها على تشكيل إطار واحد لكافة المواطنين، كما أن الصلاحيات المحدودة للسلطات المحلية تجعل من الانتخابات نوعا من إعادة التنظيم والإدارة، ونجاح العملية الانتخابية اختبار لتوزع القوى المحلية فقط لأن مثل هذه الانتخابات لا تشكل قوة سياسية على المستوى الوطني.
بقلم مازن بلال
الرئيس التونسي يعين وزراء جدد بينهم وزيرة للاقتصاد وسط تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي