طرحت قضية التمويل الليبي لحملة ساركوزي أزمة الديمقراطيات الأوروبية عموما، وكشفت طبيعة المشهد السياسي الفرنسي وعلاقته الهشة مع ليبيا ودول الشمال الإفريقي عموماً.
ورغم أن الصورة الأساسية لقضية ساركوزي بشأن تمويل حملته تبدو مرتبطة بمسألة مكافحة الفساد، لكنها في المقابل تضع السياسة الفرنسية بأكملها ضمن شبكة من التأثيرات الخارجية، وترسم أيضا ملامح علاقات لا تؤثر فقط على صورة “الديمقراطيات الغربية” فقط، إنما بطبيعة التفكير السياسي الذي يحكم مراكز القرار الأوروبية في تعاملاتها الدولية، فقضية ساركوزي هي مسألة نخبة سياسية كاملة وجدت في ليبيا محورا للتنافس المستمر سواء في مرحلة الرئيس الراحل معمر القذافي، أو حتى بعد أحداث 2011 وما خلفته من اضطرابات وانقسامات عميقة على مساحة الجغرافية الليبية.
ويبدو نموذج العلاقة بين الرئيس السابق معمر القذافي مع القوى الغربية حالة سياسية يمكن عبرها فهم الديناميكيات السياسية والاقتصادية، التي تتجاوز الحدود الوطنية لتصبح جزءاً من لعبة قوة دولية، خصوصا في ظل الوضع الليبي الحالي القائم على تدخلات أجنبية متعددة وعلى صياغة عملية سياسية تستند أساسا لدور دولي بالدرجة الأولى، فصراع الأجندات يمكن أن يصل إلى حدود السياسات الوطنية للدول الأوروبية، ولا يقتصر فقط على التأثير أو الضغط على أطراف الصراع الليبي.
خلفيات سياسية
بدأت قضية التمويل الليبي لحملة نيكولا ساركوزي الانتخابية في عام 2007 تأخذ منحى قضائياً في أبريل 2013، بعد اتهامات ظهرت منذ عام 2011 وادعاءات نشرها موقع “ميديا بارت” الفرنسي عن تمويل كبير لساركوزي قدر بخمسين مليون يورو، وتلى الاتهامات تحقيقات قضائية في فرنسا تناولت الجوانب القانونية والمالية للقضية، وتطورت القضية بشكل بطيء إلى أن أعلن في الرابع من مايو 2024 أن كارلا بروني، زوجة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، تم استجوابها كمشتبه بها في قضية التمويل غير القانوني لحملة ساركوزي.
وجاءت هذه التحقيقات كجزء من سلسلة طويلة من الاستقصاءات التي بدأت منذ سنوات، والتي أظهرت تعقيدات تتجاوز الحدود الوطنية لتكشف عن شبكة واسعة من العلاقات والصفقات بين الأنظمة السياسية في فرنسا وليبيا، حيث تم اتهام بروني بالتلاعب بأقوال الشهود، وخاصة فيما يتعلق بتراجع رجل الأعمال زياد تقي الدين عن أقواله السابقة بشأن نقل الأموال، فهو أكد في بداية التحقيقات عن نقله حقائب تحتوي على ملايين اليوروهات من ليبيا إلى وزارة الداخلية الفرنسية عندما كان ساركوزي وزيرا للداخلية، ثم تراجع عن أقواله لاحقا لتستمر التحقيقات من أجل معرفة ما إذا كان تقي الدين تلقى أموالاً أو تعرض لضغوط لتغيير أقواله.
التأثير على الديناميكيات السياسية
والتفاصيل الخاصة بالتحقيقات تبدو مجرد بوابة لقراءة المعادلة الصعبة للعلاقات الفرنسية – الليبية، فهي تكشف الأوراق السياسية التي تم استخدامها لبناء التحالفات وإنهاء الخلافات مع ليبيا بعد انتهاء قضية “لوكربي” التي وضعت ليبيا ضمن حصار دولي خانق، فالسياسة الفرنسية تجاه ليبيا تتسم بالتعقيد وتداخل المصالح، وخلال فترة حكم ساركوزي سعت فرنسا لتعزيز علاقتها مع القذافي، متجاوزة العديد من الخلافات السابقة، وكانت زيارة القذافي لباريس في 2007 واستقباله الرسمي في الإليزيه؛ تعبيرا واضحا عن التحالفات الجديدة، لكن الأمور تغيرت مع اندلاع الاضطرابات الليبية في 2011.
ما تعكسه قضية ساركوزي والتمويل الليبي لحملته الانتخابية يتجاوز قضايا الفساد المحتمل في السياسة الفرنسية، ويسلط الضوء على الآلية التي تبعتها فرنسا في علاقاتها الدبلوماسية لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأمد، وتسببت في تداعيات على الاستقرار السياسي وفي تكريس شكل من العلاقات بين القوى الغربية مع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فهذا النوع من القضايا المرتبطة بالفساد يؤثر بشكل مباشر على الديناميكيات الإقليمية عبر أمرين:
- الأول عدم وجو قاعدة سياسية واضحة للعلاقات التي تبدو كتنافس شخصي وليست توافق مصالح، فما قدمه القذافي إلى ساركوزي لم يمنع فرنسا من لعب دور قيادي في التحالف الدولي الذي تدخل عسكريا في ليبيا في 2011، ما أسفر عن الإطاحة بالقذافي ومقتله.
هذا التدخل أثار العديد من التساؤلات حول الدوافع الحقيقية لفرنسا، حيث يرى بعض المراقبين أن ساركوزي كان يسعى للتخلص من القذافي لإخفاء علاقته الملتبسة بالتمويل الليبي لحملته الانتخابية، وهذه الخطوة أثرت بشكل كبير على المشهد السياسي الليبي، ما أدى إلى حالة من الفوضى والصراع المستمر حتى اليوم.
- الأمر الثاني مرتبط بالمفارقة في التحالفات التي يقيمها الغرب عموما، وفرنسا بشكل خاص، مع ليبيا حاليا، فنموذج سياسة ساركوزي مع القذافي والانتقال من الخصومة إلى التحالف ثم إلى التدخل العسكري ستبقى قائمة ضمن الوضع الحالي في ليبيا، ويوضح التنافس الغربي للسيطرة على السياسة الليبية تناقضا ما بين محاولة تشكيل جبهة ضد التواجد الروسي “المفترض”، وبين الصراع على المصالح في الغرب الليبي الذي ينعكس سلبا على العملية السياسية الليبية.
يتضح هذا الأمر من خلال زيارة رئيسة وزراء إيطاليا جيورجيا ميلوني، حيث تريد تقوية الدور الإيطالي في ليبيا لتعزيز دورها فيها، فالزيارة تبدو متزامنة مع عودة قضية ساركوزي إلى واجهة المشهد السياسي الفرنسي، وهي تحمل مؤشرا على ايداعات أن إيطاليا مستعدة للدخول إلى ليبيا على أرضية مختلفة عن السياسة الفرنسية، وبأنها قادرة على الضغط والتأثير حتى في الشرق الليبي الذي يبدو بعيدا عن الصراعات الأوروبية على ليبيا.
رغم كل التداعيات التي تحملها قضية ساركوزي على علاقة ليبيا بفرنسا، لكنها في المقابل تكشف الثغرات في النظام الديمقراطي الفرنسي ،وكيف يمكن للأموال الأجنبية التأثير على نتائج الانتخابات والسياسات الحكومية. وإذا أغلقت التحقيقات وأحيل ساركوزي إلى المحاكمة، فمن المتوقع أن تبدأ المحاكمة في أوائل عام 2025 بتهم تشمل التستر على اختلاس أموال عامة ليبية، والفساد وتشكيل عصابة إجرامية وتمويل غير قانوني للحملة الانتخابية. هذه المحاكمة ستكون تاريخية، ليس فقط لأنها تشمل رئيسا سابقا، بل لأنها تسلط الضوء على مدى تورط الأموال الأجنبية في السياسة الفرنسية.
بقلم نضال الخضري
الأمم المتحدة تدعو لاجتماع طارئ وسط تصاعد الأزمة حول مصرف ليبيا المركزي