لم يكن توقيف وزير النفط والغاز الليبي السابق محمد عون في مطار معيتيقة بطرابلس حدثاً عابراً أو مجرد إجراء قضائي لتنفيذ حكم قديم، بل بدا منذ لحظته الأولى أقرب إلى رسالة سياسية متعددة الأبعاد.
عون الذي أُفرج عنه بعد ساعات قليلة لم يكن يوماً وزيراً تقليدياً، بل خصماً معلناً لرئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية عبد الحميد الدبيبة، وناقداً شرساً لسياساته في واحد من أكثر الملفات حساسية في ليبيا، فملف النفط بقي لعقود مركز التنافس على السلطة والثروة وميدان التدخلات الداخلية والخارجية.
حكم غيابي قديم… يُبعث من جديد
برّر مكتب النائب العام توقيف عون بتنفيذ حكم غيابي صدر بحقه عام 2006، يقضي بسجنه أربع سنوات بتهمة إساءة استعمال السلطة الوظيفية وإهمال صون المال العام حين كان رئيساً لمجلس إدارة شركة الزويتينة للنفط، غير أن السرعة التي أُطلق بها سراحه، والاعتراف الرسمي لاحقاً بسقوط الحكم قانونياً لامتثاله أمام القضاء سابقاً، يفتحان الباب لتساؤلات مُحرجة، فلماذا أعيد فتح ملف قضائي عمره أكثر من عشرين عاماً الآن تحديداً؟ ولماذا لم تُنفّذ العقوبة حين عُيّن وزيراً عام 2021، أو حتى حين أُقيل وحققت معه جهات الرقابة الإدارية في السنوات الماضية؟
الإجابة التي تبدو أقرب للواقع ويؤكدها حتى بعض أعضاء مجلس النواب، هي أن القضية استُدعيت في لحظة سياسية حساسة لتصفية حسابات مع رجل أحرج الحكومة مرارا بكشفه ملفات حساسة، ورفضه تمرير صفقات نفطية ضخمة.
معيتيقة… أكثر من مجرد مطار
لم يكن اختيار مطار معيتيقة لتنفيذ توقيف محمد عون شأناًعادياً، فهذا المنفذ الحيوي، الذي يخضع عملياً لسلطة قوة الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كارة، يرمز منذ سنوات إلى ميزان القوة الأمنية في طرابلس، وتمت عملية الاعتقال الوزير في المطار لا في مقر إقامته أو عبر استدعاء قضائي رسمي، وكأن المطلوب أن تكتسب الواقعة أبعاداً تتجاوز الجانب القانوني إلى رسائل موجهة إلى الداخل والخارج على السواء.

وفتح هذا الاختيار الباب أمام سيل من التكهنات، فالبعض رأى فيه محاولة لإقحام اسم كارة أو الإيحاء بضلوع أجهزته في العملية، رغم أن النائب العام هو من أعلن المسؤولية المباشرة عنها، بينما ذهب آخرون إلى اعتباره نوعاً من خلط الأوراق المتعمّد في معركة النفوذ بين القوى المسلحة داخل العاصمة، حيث تُستعمل القضايا القضائية أحياناً كسلاح في التنافس الأمني والسياسي، ما يعزز الانطباع بأن طرابلس تخضع لحسابات الميليشيات أكثر مما تخضع لسلطة القانون.
الدبيبة وعون: تاريخ من الشد والجذب
لم يكن محمد عون، المولود في مدينة صرمان عام 1950، شخصية عابرة في المشهد النفطي الليبي، فهو يملك خبرة طويلة في مؤسسات القطاع، وتولى رئاسة مجلس إدارة شركة الزويتينة للنفط، قبل أن يُعيَّن وزيراً للنفط والغاز في حكومة الوحدة الوطنية عام 2021، واشتهر بكونه تكنوقراطياً وصاحب خبرة مهنية، لكنه أيضا شخصية عنيدة لا تتردد في الدخول في مواجهة مع من يرى أنهم يهددون استقلالية القرار النفطي أو يفرّطون في الثروة الوطنية.

منذ توليه منصب الوزير، سعى عون إلى ترسيخ سلطة وزارته باعتبارها المرجع الأول في التعاقدات النفطية، رافضاً أن تُختزل صلاحياته في مجرد غطاء لقرارات مكتب رئيس الحكومة، وهذا الموقف سرعان ما وضعه في مواجهة مباشرة مع عبد الحميد الدبيبة، كما أدخله في صدامات متكررة مع رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، وازدادت حدة التوتر حين رفض تمرير اتفاقيات متعلقة بحقل الحمادة، الأمر الذي جعله هدفاً لمراكز الضغط الداخلية والخارجية على حد سواء.
بلغ الصراع ذروته عام 2024، عندما أقاله الدبيبة بشكل غير رسمي عبر تكليف وكيل الوزارة بمهامه، متجاهلاً أحكاماً قضائية لاحقة أكدت أحقية عون بالعودة، هذه السابقة لم تُقرأ فقط كتحدٍّ لشخص الوزير، بل كجزء من نمط متكرر يقوم على تجاهل متعمّد للقضاء كلما تعلق الأمر بشخصية تُعد حجر عثرة أمام مشاريع رئيس الحكومة وحلفائه.
قضية الحمادة: قلب الصراع النفطي
لا يمكن فهم اعتقال عون دون ربطه بملف حقل الحمادة NC7، حيث رفض الوزير السابق توقيع اتفاقية تمنح 40% من إنتاج الحقل لائتلاف شركات أجنبية (إيني الإيطالية، أدنوك الإماراتية، توتال الفرنسية)، واعتبرها مجحفة بالثروة الوطنية.

موقفه هذا صب الزيت على النار، إذ رآه البعض عقبة أمام إرضاء حلفاء إقليميين وغربيين للدبيبة، وتحول الصراع من مجرد خلاف إداري إلى معركة جيوسياسية حول من يملك حق التحكم في ثروة ليبيا النفطية: الليبيون أنفسهم، أم الشركات الدولية التي تتغذى على هشاشة الحكومات وضعف المؤسسات؟
البعد القانوني: تسييس القضاء
من الناحية القانونية، بدا التوقيف مليئاً بالتناقضات، فكيف يُعاد إحياء ملفات تعود إلى نحو عقدين من الزمن، بينما تعج الساحة بعشرات القضايا الراهنة التي تكشفها تقارير الأجهزة الرقابية سنوياً، وتقدّر بمليارات الدولارات؟ فاختيار ملف قديم كهذا يوحي بانتقائية فجة، ويجعل من القضاء أداة تُستدعى عند الحاجة، لا سلطة مستقلة تسعى لتحقيق العدالة.

الأخطر أن هذه الانتقائية لا تعكس مجرد خلل إداري، بل تكشف عن تسييس فج للقضاء، حيث يُلوّح بالقانون كسوط في وجه المعارضين والمزعجين، بينما يُغلق الباب أمام أي محاسبة حقيقية للنافذين والمتنفّعين من الثروة الوطنية، والحديث عن “تنفيذ أحكام قضائية” يبدو مسرحية سياسية مكشوفة، بينما العدالة نفسها تصبح سلاحا ضمن ترسانة الصراع على السلطة والنفط.
الرأي العام: تعاطف مع “الوزير المتمرد“
الأمر المثير للانتباه موجة التعاطف الشعبي والسياسي التي حظي بها عون عقب اعتقاله، فلم يعد مجرد وزير سابق، بل رمزاً لمواجهة منظومة الفساد و”بيع النفط” للأجانب، وعضو مجلس النواب علي الصول أشار إلى أن هذا التعاطف نابع من خبرة عون الطويلة، ومواقفه الرافضة لتبديد الثروة الوطنية، وحتى بعض الإعلاميين المحسوبين على معسكر الدبيبة وجدوا أنفسهم مضطرين للتساؤل: كيف عُيّن وزيراً أصلاً إذا كان مداناً منذ 2006؟
هذا التناقض زاد من صورة الدبيبة كرجل يستعمل مؤسسات الدولة كأدوات سياسية، ما يضعف شرعيته أكثر في الداخل والخارج.
ولا يخلو الأمر أيضاً من بُعد تكتيكي، فطرابلس كانت تشهد في تلك الأيام تحشيدات أمنية وتوترات بين مجموعات مسلحة، وحادثة اعتقال عون بدت للبعض محاولة لصرف الأنظار عن هذه التطورات، أو على الأقل لملء الفضاء الإعلامي بقضية جديدة، فالحادثة في أحد أبعادها تهدف إلى إسكات عون ومنعه من إطلاق تصريحات ناقدة في لحظة حاسمة تخص مستقبل عقود النفط.
ليبيا بين الفوضى والحسابات الضيقة
تكشف هذه الواقعة عن أزمة أعمق من خلال تسليط الضور على غياب دولة القانون في ليبيا، فحين يُستدعى ملف قديم لتصفية حسابات سياسية، ويتم تجاهل القضاء أو استدعائه وفقاً لمصلحة السلطة التنفيذية، فإن الرسالة التي يتلقاها المواطن الليبي هي أن العدالة انتقائية.
الأخطر أن هذه الممارسات تُرسل إشارة سلبية إلى الخارج مفادها أن ليبيا ما زالت عاجزة عن إدارة قطاعها النفطي بشفافية واستقلالية، وهذا يفتح الباب واسعاً أمام المزيد من التدخلات الأجنبية تحت ذريعة “المساعدة في إدارة الثروة”، وهو ما كان عون يحذّر منه مرارا باعتباره انتقاصا من السيادة.
قراءة في مستقبل القضية
من الناحية الإجرائية، حُددت جلسة لمحاكمة عون أمام محكمة استئناف طرابلس في 9 سبتمبر 2025، لكن بغض النظر عن المآل القانوني، فإن القضية تحولت إلى محاكمة سياسية مفتوحة لأسلوب حكم الدبيبة القائم على التلاعب بالمؤسسات، ولمنظومة فساد نفطية متجذرة أيضاً، ولضعف النخبة الليبية في حماية سيادة القرار الوطني.

ربما يخرج عون بريئاً أو مداناً، لكن صورته في الشارع كوزير “رفض بيع النفط” ترسخت، وفي بلد يعاني من انقسام مزمن وفساد يلتهم موارده، فإن هذه الرمزية أثمن من أي منصب رسمي.
القضية أبعد من رجل
اعتقال محمد عون ثم الإفراج عنه بسرعة قياسية لم يكن مجرد خطأ بروتوكولي أو ارتباك إداري، بل مرآة تعكس عمق الأزمة الليبية التي تتقاطع فيها تصفية الحسابات السياسية مع التلاعب بالقضاء، وتتشابك فيها مصالح الشركات الأجنبية مع طموحات الفاعلين المحليين.
القضية ليست في رجل واحد بقدر ما هي مسألة وطن يبحث عن سيادته المهدورة وعن مؤسسات قادرة على حماية ثروته، وما لم يُكسر هذا النمط من الاستغلال السياسي للعدالة والموارد، فإن ليبيا ستبقى أسيرة دوامة سياسية خطيرة.
بقلم: نضال الخضري
ليبيا.. ترحيل 176 مهاجرا تشاديا (صور)
