11 أبريل 2025

تتبلور في ليبيا أزمة جديدة وسط الواقع الذي يعيشه الليبيون من انقسام سياسي وتفتت مؤسسات الدولة، حيث تظهر ملامح تغيير التركيبة السكانية والسياسية للبلاد عبر محاولات التوطين للمهاجرين من القارة الإفريقية.

تظهر ليبيا كمحطة عبور للمهاجرين غير النظاميين، الفارين من ويلات الفقر والنزاعات في إفريقيا وآسيا، وتشكل اليوم مستودعا بشريا لمشروع توطين تتزعمه قوى غربية دون أن تعلن صراحة عن ذلك، فحرب أوروبا ضد الهجرة غير الشرعية تنتهي عند حدود منع القادمين عبر البحر المتوسط إليها، وتتعامل مع ليبيا كنقطة تجميع المهاجرين على أنها أرض مفتوحة يمكن توطين القادمين إليها.

منظمات غير حكومية أم واجهات جيوسياسية؟

في أبريل 2025، خرج جهاز الأمن الداخلي التابع لحكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية في طرابلس بتصريحات متهماً منظمات دولية غير حكومية، من بينها “أطباء بلا حدود”، و”المجلس النرويجي للاجئين”، و”منظمة أرض الإنسان الإيطالية”، بالتورط في مشروع توطين المهاجرين غير النظاميين داخل ليبيا، وبين الجهاز أن التحقيقات كشفت عن دعم أجنبي مباشر لأنشطة يمكن اعتبارها وفق السياسات الليبية بأنها “معادية للسيادة الوطنية” وتمس بـ”أمن الدولة”.

وكانت أبرز التهم التي قدمها جهاز الأمن الداخلي استغلال هذه المنظمات لحالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي لتقديم خدمات صحية وتعليمية ومساعدات مالية للمهاجرين، ووفق آلية وخطوات تسعى للتوطين الدائم، واعتبر أن هذه التحركات جزءا من خطة “تغيير ديموغرافي” يرعاها الغرب، والتحقيقات الخاصة بالجهاز لم تأت من فراغ، فبعض التقارير الصادرة عن الجهات الليبية تتحدث عن وجود “أربعة ملايين” مهاجر في البلاد، بينما تذهب بعض الإحصاءات المستقلة مثل تقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة إلى توثيق أكثر تحفظا، حيث تتحدث عن وجود نحو 700 ألف مهاجر في ليبيا، حتى نهاية 2023، ومعظمهم من دول جنوب الصحراء الإفريقية، إلى جانب مهاجرين من سوريا وبنغلاديش وباكستان.

وسط تناقض الأرقام يظهر سؤال أساسي عن سبب التصعيد من قبل السلطات الليبية تجاه مسألة التوطين، ولماذا تتحدث عن توطين دائم في بلد بالكاد يحتمل مواطنيه؟ وأحد جوانب الإجابة عن هذا التساؤل هو في السياسة التي تنتهجها الحكومة في طرابلس وليس في طبيعة الهجرة.

وتستفيد المليشيات في الغرب الليبي والمؤسسات المتنافسة في طرابلس تستفيد من تضخيم أرقام المهاجرين لابتزاز المجتمع الدولي، وبالدرجة الأولى الاتحاد الأوروبي الذي يضخ ملايين اليوروهات في برامج “مكافحة الهجرة غير الشرعية” و”دعم قدرات خفر السواحل الليبي”، بحسب تقديرات أممية، فإن تجارة البشر وحدها تُدر حوالي 300 مليون دولار سنويا على الجماعات المسلحة في غرب ليبيا.

قراءة في المشروع الأوروبي

يرفض الاتحاد الأوروبي وفق ما يعلنه المسؤولون “توطين” المهاجرين في ليبيا؛ لكن على الأرض، هناك مؤشرات يمكن قراءتها بشكل مختلف، لما بين 2015 و2023، ضخ الاتحاد الأوروبي أكثر من 465 مليون يورو في مشاريع دعم “إدارة الهجرة” داخل ليبيا،وجزء كبير من هذا المبلغ ذهب إلى بناء قدرات البنية التحتية الأمنية على الحدود، لكن حصة كبيرة من التمويل تم صرفها لدعم مراكز الاحتجاز، مثل معتقل قنفودة والزاوية التي تُدار من قبل مليشيات، وتتهمها منظمات حقوقية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

كما افتتح الاتحاد الأوروبي مكاتب للمفوضية السامية للاجئين داخل ليبيا لتسجيل طلبات لجوء، ولكن دون أن يتم نقل معظم المتقدمين إلى دول أوروبية، ووفق السجلات الأوروبية فإن دولا مثل ألمانيا وفرنسا لا تستقبل سوى بضع مئات من اللاجئين سنويا عبر “ممرات إنسانية”، في وقت يُحتجز فيه آلاف الأشخاص داخل الأراضي الليبية في ظروف غير إنسانية.

على الجانب الليبي فإن كلمة “توطين” أصبحت خطا أحمر، حيث يرفض السياسيون والقادة العسكريون، وحتى المواطنين تحويل بلادهم من ممر إلى “مستقر نهائي” للمهاجرين، وشهدت طرابلس ومصراتة ومدن أخرى موجة احتجاجات في مارس 2025، ضد ما اعتُبر “مخططا غربيا لإعادة هندسة التركيبة السكانية”، وحتى التحالفات السياسية الليبية توحدت في رفضها القاطع لأي مشروع للتوطين، ويبدو أن الحد الفاصل بين الرفض لمشروع التوطين وبين الانزلاق إلى خطاب الكراهية بات هشا، حيث حذرت منظمات حقوق الإنسان من تنامي الهجمات اللفظية والجسدية على مهاجرين من أصحاب البشرة السمراء، ما يحمل خطر اندلاع مواجهات دامية في بلد يعج بالسلاح والفراغ الأمني.

ما مصلحة الغرب في توطين المهاجرين بليبيا؟

تحاول أوروبا إغلاق بوابة الجنوب للهجرة غير الشرعية عبر ليبيا بأي ثمن، فسياسات الهجرة في القارة تعاني من ضغط شعبي وسياسي كبير، خصوصا مع تصاعد التيارات اليمينية، وخيار “إبقاء المهاجرين في ليبيا”، ولو تحت مسمى “إعادة التأهيل” أو “برامج الدعم”، هو أقل كلفة سياسيا من استقبالهم في أوروبا.

وتذهب بعض التحليلات أبعد من ذلك، فهي تتحدث عن خطة “ناعمة” لتوطين المهاجرين في ليبيا عبر دمجهم تدريجيا في سوق العمل الليبي، خاصة في قطاعات الزراعة والبناء، مقابل تقديم تمويل أوروبي لحكومة طرابلس، ولأن ليبيا تعاني من انخفاض الكثافة السكانية (3.7 نسمة/كم²) ، فإن الغرب يرى فيها أرضا خصبة لامتصاص جزء من الضغط الديمغرافي القادم من إفريقيا.

وفق التصور الأوروبي فإن ملف التوطين مفتوح على أكثر من احتمال، فهناك من يرى أن استمرار الوضع الراهن بكل ما يحمله من توتّر، وذلك مع استمرار التمويل الأوروبي الاستفادة المتبادلة بين المليشيات في الغرب الليبي وأوروبا، ولكن الاحتمال الأخطر يبدو في التصعيد القسري عبر تحويل ليبيا إلى “سجن مفتوح” بإدارة مليشيات محلية وغطاء دولي، ومن الممكن أيضا تفكيك المخيمات عبر حملات من المنظمات الحقوقية ما يزيد من تدفقات الهجرة نحو أوروبا، وأخيرا هناك احتمال لتوطين جزئي برعاية أممية ويشمل مشاريع تنموية على الورق، لكنه يُواجَه برفض شعبي واسع.

ليبيا ليست مجرد جغرافيا عابرة في طريق الهجرة فهي ساحة صراع مفتوح بين أطراف متناقضة، فما بين أوروبا التي تريد إغلاق أبوابها في وجه الهجرة دون أن تلوث سمعتها، ومليشيات في الغرب الليبي تبحث عن المال بأي وسيلة، يدفع المهاجرون ومعهم الشعب الليبي الفاتورة الأكبر.

بقلم: مازن بلال

اقرأ المزيد