05 ديسمبر 2025

منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، ظلّ الموقف الرسمي للخرطوم تجاه المجتمع الدولي متذبذبا بين التعاون المحدود والرفض الصريح لأي تدخل خارجي.

ومع تصاعد الانتهاكات الميدانية واتساع رقعة النزوح، بدأت الأمم المتحدة تكثّف مطالبها بإجراء تحقيقات مستقلة حول ما يجري في دارفور، في محاولة لوقف دائرة الإفلات من العقاب التي تطبع النزاع السوداني منذ عقدين.

وسط هذه الضغوط الدولية جاء ردّ الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، حادا وغير متوقّع، حيث رفض دخول بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصّي الحقائق إلى السودان للتحقيق في الفظائع التي شهدتها مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، خلال الأسابيع الأخيرة، ليضع البلاد مجددا في مواجهة مفتوحة مع المؤسسات الأممية المعنية بحقوق الإنسان.

لم يكتفِ البرهان برفض القرار الأممي، بل شكّك في شرعية مجلس حقوق الإنسان نفسه، معتبرا أن المؤسسات الدولية “تدار من قبل دول لا تعرف العدالة”، وخلف هذه النبرة المتحدّية، تتخفّى هواجس سياسية وأمنية وحقوقية معقدة، فبينما يسعى البرهان إلى حشد دعم دولي لتصنيف قوات الدعم السريع كـ”منظمة إرهابية”، يواجه جيشه اتهامات متزايدة بارتكاب انتهاكات جسيمة لا تقل خطورة عن تلك المنسوبة إلى خصومه.

الفاشر… المدينة التي تحوّلت إلى مرآة حرب السودان

لم تعد مدينة الفاشر مجرد مسرح لمعارك ميدانية، بل مرآة تعكس تداخل المأساة الإنسانية مع حرب الروايات والمعلومات المضللة، فمنذ سقوطها بيد قوات الدعم السريع في 26 أكتوبر الماضي، تحوّلت إلى نقطة اختبار لصدقية الأطراف المتحاربة، ولنزاهة المجتمع الدولي على حدّ سواء.

الأمم المتحدة أعلنت أن أكثر من 100 ألف شخص فرّوا من الفاشر ومحيطها خلال أسابيع، وأن نحو 650 ألفا آخرين يعيشون في ظروف إنسانية كارثية، تقارير المنظمات الأممية تحدّثت عن مجازر بحق المدنيين وعمليات قتل في المستشفيات، وهو ما أقرّ به حميدتي جزئيا متحدثا عن “تجاوزات محدودة”.

في المقابل، ردّ الجيش بإصرار على أنّ ما يجري في دارفور “حرب ضد الإرهاب والانفصال”، نافيا مسؤوليته عن أي انتهاكات، لكن الغموض الذي يلفّ المشهد، وتضارب الروايات المصوّرة على مواقع التواصل، جعلا من الحقيقة ضحية أولى في معركة المعلومات.

حرب الصور والمعلومات: حين يصبح التضليل أداة للنجاة

وثّق موقع «Beam Report» السوداني للتحقق الرقمي خلال ستة أشهر نحو40  تقريرا حول معلومات مضللة مرتبطة بالحرب، أكثر من نصفها عن دارفور، من بينها صور لمجازر في تشاد تُقدم كدليل على جرائم “الدعم السريع”، وأخرى تُظهر جنود الجيش وهم ينهبون البيوت، ثبت لاحقا أنها مفبركة أو من مناطق أخرى.

هذه الفوضى المعلوماتية لا تُغذّي فقط الاستقطاب الاجتماعي، بل توفّر للسلطات ذريعة مثالية لرفض الرقابة الدولية بحجة “تشويه الصورة الوطنية”، ورد البرهان على الأمم المتحدة يبدو امتدادا طبيعيا لسياسة “الهجوم الوقائي”، عبر رفض المساءلة قبل أن تُفتح الملفات.

في دولةٍ أُغلقت فيها معظم وسائل الإعلام المستقلة، واستُبدلت الصحافة بالمنشورات والهاشتاغات، تصبح السيطرة على السردية أخطر من السيطرة على الأرض، ومنع لجنة التحقيق لا يهدف فقط إلى درء الإدانة، بل إلى التحكم في الرواية التاريخية لما جرى في الفاشر.

الازدواجية الدبلوماسية: بين طلب الإدانة ورفض التحقيق

يصف خبراء القانون موقف الحكومة السودانية بأنه “متناقض بامتياز”، فهي تطالب المجتمع الدولي بإدانة قوات الدعم السريع وتصنيفها إرهابية؛ وترفض في المقابل تحقيقا مستقلا في الانتهاكات نفسها التي تشكل أساس هذه الإدانة.

يشكل هذا الموقف نسفا لمبدأ المساءلة الذي دعت إليه الحكومة نفسها، وهناك أيضا خلط واضح بين صلاحيات مجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية، فالأول يُعنى بالتحقق من الوقائع لحماية المدنيين، وليس بمحاكمة المتهمين.

فرفض الخرطوم استقبال البعثة الأممية ليس رفضا للإدانة، بل لمبدأ التحقيق ذاته، وهو ما يُفقد موقفها الأخلاقي أمام العالم ويثير تساؤلات داخلية حول ما تسعى لإخفائه.

هل يخشى البرهان انعكاس المرآة؟

في نظر المراقبين، لا يمكن فهم موقف البرهان بمعزل عن تاريخ طويل من الانتهاكات التي ارتكبها الجيش السوداني، ووُثّقت في تقارير الأمم المتحدة ومنظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، فبينما ارتكبت قوات الدعم السريع مجازر مروّعة ذات طابع عرقي في دارفور، فإنّ الجيش بدوره استخدم القصف الجوي والمدفعي العشوائي في مناطق مأهولة، وفرض حصارا إنسانيا خانقا على بعض المدن، ومنع وصول المساعدات الطبية والغذائية، ما أسفر عن وفاة مدنيين.

كما سجّلت منظمات محلية حالات اعتقال تعسفي واختفاء قسري بحق ناشطين وإغاثيين في الخرطوم وكردفان والنيل الأبيض، وبالرغم من أن هذه الوقائع لا تزال “مزاعم قيد التحقيق”، فإنّ صورة الجيش كـ”طرف نقيّ” تتآكل تدريجياً أمام الرأي العام الدولي.

لذلك، فإن خشية البرهان من لجنة تقصّي الحقائق لا ترتبط فقط بخوفه من “التحامل الغربي”، بل من أن تكشف التحقيقات أنّ مسؤوليته عن معاناة المدنيين لا تقلّ عن خصمه حميدتي.

العدالة الغائبة والذاكرة الممسوحة

السودان اليوم يقف على مفترق طريقٍ خطير؛ فإمّا أن يختار الشفافية والمساءلة، أو يواصل دفن الحقيقة تحت ركام الدعاية والإنكار، فرفض الخرطوم لبعثة الأمم المتحدة لا يمثل موقفا سياديا إنما تكتيك دفاعي في حرب الذاكرة.

فكما استُخدم التضليل الرقمي لإخفاء صور الضحايا، يُستخدم الآن خطاب “الاستقلال الوطني” لإخفاء مسؤولية الدولة عن فشلها في حماية مواطنيها، والمفارقة أن كثيرا من مسؤولي الأمم المتحدة الذين تهاجمهم الخرطوم اليوم كانوا، حتى وقت قريب، من أكثر الأصوات تفهما لموقف الحكومة السودانية.
لكن ما إن تحوّلت دارفور إلى “مأساة لا يمكن تبريرها”، حتى سقطت أوراق التفاهم القديمة، وحلّت محلها لغة الاتهام والتشكيك.

الفشل الإعلامي والانسحاب الأخلاقي

في ظلّ توقف الصحافة التقليدية، وانقطاع الاتصالات في مناطق واسعة، صار المجتمع السوداني يعيش في عزلةٍ مزدوجة، الأولى مادية تمنع وصول المساعدات، والثانية معرفية تحجب الحقيقة.

الجيش والدعم السريع على حدّ سواء يديران حربا إلكترونية عبر جيوش من الحسابات، في تكراٍر لـ”وحدة الجهاد الإلكتروني” التي أنشأها نظام البشير قبل عقدٍ من الزمن، وإذا كانت “قوات الدعم السريع” استثمرت هذه الفوضى لبناء صورة “القوة المنتصرة”، فإنّ الجيش بدوره يستغلها لتحصين نفسه من المساءلة، عبر تسويق رواية تقول إنّ كل ما يُنشر ضده “حملة تضليل من خصوم الوطن”، ولم يعد التضليل عرضا من أعراض الحرب، بل أحد أسلحتها الاستراتيجية.

المجتمع الدولي بين العجز والمساومة

الردّ السوداني على الأمم المتحدة كشف هشاشة الإرادة الدولية تجاه النزاع، فبينما صوّت مجلس حقوق الإنسان بالإجماع لإرسال لجنة تقصّي الحقائق، فإن عجز المجتمع الدولي عن فرض تنفيذ القرار يعيد إلى الأذهان إخفاقاته في رواندا والبوسنة.

وما يزيد الصورة قتامة هو أن بعض الدول الإفريقية والعربية أبدت “تفهما” للموقف السوداني، ما يعكس رغبة جماعية في تجنّب سوابق ربما تُستخدم ضدها لاحقا، وهذا الصمت المبطن يعني ببساطة أن العدالة في السودان مؤجلة إلى أجلٍ غير مسمّى، ومعاناة الفارين من الفاشر، الذين تجاوز عددهم مئة ألف، ليست سوى بندٍ في تقارير موسمية.

ما بعد الفاشر

لم يكن رفض البرهان للجنة تقصّي الحقائق مجرد رد سياسي على ضغط أممي، بل بيانا ضمنيا عن طبيعة المرحلة التي يعيشها السودان، حيث تغليب مرحلة الخوف من الشفافية، والبقاء العسكري على المساءلة الوطنية.

وفي بلد يُدار الآن بمنطق القوة لا بالقانون، يصبح رفض التحقيق في الفاشر إعلانا صريحا بأن العدالة ليست أولوية، وأن الحقيقة ستُترك لتتآكل بين أنقاض المدن وصدى الأخبار المضللة.

بقلم مازن بلال

السودان.. القوة المشتركة للحركات المسلحة في دارفور تواجه خطر التفكك

اقرأ المزيد