منذ أن ظهر مصطلح “الشاطئ الرابع” في التفكير الاستعماري الإيطالي تحولت ليبيا إلى مجال حيوي مختلف لدى القادة الإيطاليين.
تشكلت ليبيا مع بداية القرن العشرين في تصورات القادة الإيطاليين، ولم تعد مجرد شاطئ واسع في قلب الشمال الإفريقي فقط، بل مسرحا لأحداث مأساوية مازالت حاضرة في ذاكرة الليبيين، ومرحلة خاصة أيضا تحمل معها سجلا تاريخيا كون الثقافة المعاصرة التي قادت ليبيا للانتقال من مستعمرة إيطالية إلى دولة مستقلة.
وفي فترة الحكم الاستعماري الإيطالي، وخاصة خلال النظام الفاشي من عام 1934 إلى عام 1939، تميزت بتفاعل معقد بين القمع والتحديث، والمحو الثقافي والمقاومة وفي ظل شخصيات مثل إيتالو بالبو ورودولفو جراتسياني، وهو ما خلف تأثيرات متعددة الأوجه نتيجة السياسات الفاشية الإيطالية على المجتمع الليبي والثقافة والهوية.
القبضة الحديدية والسياسات الفاشية
بموجب المرسوم الملكي التشريعي رقم 2012 الصادر يوم 3 ديسمبر من عام 1934، حملت المستعمرة الإيطالية في الشمال الإفريقي اسم ليبيا، وغدت مستعمرة واحدة مقرُّها الرئيسي طرابلس، حيث تم التوحيد الإداري لإقليمي طرابلس وبرقة، بعد أن كانا سابقا منطقتين إيطاليتين منفردتين، ومع تعيين ايتالو بالبو حاكما لطرابلس وبرقة في يناير 1934 ظهرت متغيرات جديدة في إدارة المستعمرة، مثل قضايا التعاون والتكامل بين المواطنين الليبيين والمستوطنين الإيطاليين، وبين المواطنين الليبيين و”الوطن الأم إيطاليا”.
وبعد عامين من القمع الذي تمّ به سحق المقاومة الليبية في برقة، على يد غراتسياني في عام 1932، سعى بالبو إلى قمع ثقافي عبر تكتيكات المصالحة مع الليبيين.
واستفاد بالبو من تجربة الحكام الإيطاليين السابقين وعلى الأخص غراتسياني، فالمقاومة الليبية في تلك المراحل استندت إلى طبيعة المجتمع الليبي المعتمد على “العلاقات القبلية” من جهة، وعلى التراث الصوفي الذي وفر أيضا شبكة واسعة لتعبئة الليبيين.
وكانت كافة سياسات بالبو التي تم وضعها في “قالب” من مفاهيم التنمية والدمج هي في الوقع عملية “استبدال ثقافي” لإضفاء الطابع الإيطالي على ليبيا، وكان من الأمور الأساسية في هذه الاستراتيجية توحيد المقاطعات الليبية تحت إدارة إيطالية مركزية، بهدف دمج المستعمرة ضمن النسيج الأوسع للدولة الإيطالية.
ولم تكن هذه مجرد إعادة تنظيم إداري، بل كانت محاولة متعمدة لمحو الهوية الليبية واستبدالها بثقافة إيطالية مفروضة.
وبدت إجراءات بالبو مجرد إطار سياسي لا علاقة له بالثقافة الليبية، وبقيت المقاومة تتفاعل تحت واقع فرضته مسائل الدمج وتغيير العادات الثقافية، حيث عارضت القبائل الليبية المتجذرة في أراضيها وتقاليدها العرض الإيطالي.
ورغم أن هذه الفترة مختلفة عن حملة القمع الوحشية التي قادتها شخصيات عسكرية مثل غراتسياني، فإن “القمع الثقافي” كان أشد تأثيرا على المدى الطويل، حيث بدت ليبيا نموذجا يحاول كسر الطموح الاستعماري.
لم يكن بالبو ظاهرة خاصة بسبب أيديولوجيته الفاشية المتحمسة فحسب، بل أيضا لرؤيته لليبيا كجزء لا يتجزأ من الإمبراطورية الإيطالية، سعت سياساته إلى تحويل ليبيا من خلال مبادرات التنمية، بما في ذلك مشاريع البنية التحتية والإصلاحات الزراعية، حيث تصور ليبيا الحديثة جزء من شبكة المصالح الإيطالية، وكانت مبادراته متناقضة، حيث شجعت التحديث مع فرض الفصل العنصري واستغلال الموارد والعمالة الليبية، وجسدت إرثا معقدا يجسد تناقضات السياسة الاستعمارية الإيطالية،تجمع حجج التطور مع هيمنة والغاء كلي للثقافة الليبية.
الصدام الثقافي: المقاومة والتأقلم بين الشعب الليبي
واجه المسعى الإيطالي لإعادة تشكيل المجتمع الليبي ثقافة مرنة ذات جذور تاريخية عميقة، واستخدمت القبائل والمجتمعات الليبية استراتيجيات مختلفة للمقاومة وفرض وجودها، أو حتى التكيف مع محاولات تغيير البنية الاجتماعية عموما، وذلك عبر التفاوض ضمن النظام الاستعماري الجديد، أو تجاهل عمليات التبديل الثقافي المفروض، وشهدت هذه الفترة مقاومة ثقافية ديناميكية، حيث سعى الليبيون إلى الحفاظ على هويتهم وتقاليدهم وأعرافهم الاجتماعية في مواجهة الاستيعاب والقمع.
ولم يكن صراع الثقافات مجرد معركة إرادات، بل كان تحولا عميقا في المجتمع الليبي، حيث عطلت السياسات الإيطالية الهياكل الاجتماعية التقليدية، وأدخلت أشكالاً جديدة من الحكم، وأجبرت على إعادة تقييم الهوية الليبية في السياق الاستعماري، وحاولت استبدال المرجعيات القوية للمجتمع الليبي سواء قادة القبائل أو زعماء الطرق الصوفية، بمؤسسات هي في الواقع هياكل لإدارة الصراع مع الشعب الليبي، فحيوية الهوية الثقافية استطاعت عبر مرونتها التكيف مع السياسات الجديدة.
آثار الحكم الإيطالي
بقيت ظلال الحكم الاستعماري الإيطالي باقية في ليبيا، وهو إرث يبدو ظاهره في البنية التحتية التي تم إنشاؤها لإدارة التناقض بين الحكم الاستعماري والمقاومة، وتركت فترة الحكم الإيطالي وراءها إرثا معقدا لا يزال يؤثر على المجتمع الليبي في الثقافة والسياسة، حيث تعد الفترة الإيطالية في التاريخ الليبي بمثابة تذكير بتعقيدات المواجهات الاستعمارية، وتؤكد أهمية فهم هذه الحقبة ليس فقط باعتبارها فترة قمع، بل باعتبارها لحظة محورية في تشكيل الهوية الليبية الحديثة.
وخلق النظام الفاشي سياق أو بيئة مناسبة لتغيير الوضع القانوني والإداري لليبيا لمتابعة عملية ضمّ المقاطعات الليبية الأربعة : طرابلس، ومصراتة، وبنغازي، ودرنة إلى إيطاليا، وبهذه الطريقة كان من الممكن تحقيق توسع الهيمنة الإيطالية على وسط البحر الأبيض المتوسط.
ولم يمثل مشروع الاستعمار الإيطالي في ليبيا سوى صورة للتمييز الدقيق والخفي على مستوى الطبقات الاجتماعية الليبية، فمحور هذا المشروع هو التمييز العنصري وتعميق التناقض داخل الفئات الاجتماعية، وغايته القصوى خلق نخبة اجتماعية جديدة قادرة على التعامل مع المؤسسات الاستعمارية، وكانت سياسات إيطاليا تنحصر في بناء تيار”الأقلية” من الشعب يتمتعون بالنفوذ والسطوة، ومكافأة هذه النخبة مع فرض تفاوت بينها وبين باقي أبناء المجتمع الليبي.
بقلم نضال الخضري
ليبيا بين الفساد والصراعات السياسية