05 ديسمبر 2025

ما تواجهه حكومة عبد الحميد الدبيبة هو نتيجة عدم اعترافها الطويل بأن ولايتها انتهت، تعيش الأن الانهيار التام، وطرابلس تشهد انفجارا سياسياً واجتماعياً غير مسبوق.

الأزمات المتراكبة وفقدان الشرعية لسنوات تجسّد في الشوارع، وعلى مكاتب الوزراء، وفي بيانات الاستقالات التي تتوالى كالسيل، هرباً من مركب حكومي غارق في الفساد والعجز والانفصال التام عن نبض الشارع، والوزير تلو الآخر ينسحب من مشهد الدمار السياسي الذي يقوده الدبيبة.

جملة من الوزراء قرروا الاستقالة ابتداء من وزير الاقتصاد محمد الحويج، ووزير الحكم المحلي بدر الدين التومي، إضافة لوزير الإسكان أبو بكر الغاوي، وزيرة الثقافة مبروكة توغي، وزيرة العدل حليمة البوسيفي، ووكيل الموارد المائية محمد قنيدي، كما أن نائب رئيس الحكومة رمضان أبو جناح،  قرر أيضا القفز من السفينة قبل غرقها.

واللافت أن معظم هذه الاستقالات جاءت بصيغة واحدة تقريباً: “انحيازاً للشعب، ورفضاً لسفك الدماء، وفشلاً في الإصلاح من الداخل”، فلم يعد أحد يريد أن يرتبط اسمه بهذه الحكومة التي تآكلت من الداخل وفقدت حتى ورقة التوت السياسية التي كانت تغطي سوء إدارتها.

الاشتباكات: الشرارة الأمنية التي فجّرت الأزمة

في قلب العاصمة، اندلعت اشتباكات دامية بين فصائل موالية للدبيبة وأخرى معارضة، سقط فيها عشرات الضحايا والجرحى، ومقتل عبد الغني الككلي “غنيوة”، رئيس جهاز دعم الاستقرار وأحد أعمدة القوة المسلحة في الغرب، كان لحظة مفصلية، فهو كان بمثابة درع الحكومة وسوطها، واختفى من المعادلة فجأة لتنكشف هشاشة الوضع الأمني وغياب السيطرة.

المشهد الأمني انهار إلى درجة دفعت وزارة الصحة إلى إعلان حالة الطوارئ في المستشفيات، ووزارة التعليم إلى تعليق الدراسة والامتحانات في طرابلس وعين زارة، أما جامعة طرابلس فأرجأت الامتحانات، ووزارة الطوارئ أعلنت النفير العام، وسيطرت حالة من الهلع العام على العاصمة، ما دفع تركيا إلى إجلاء رعاياها بالكامل، في مشهد يعيد إلى الأذهان صور الحروب لا الأزمات السياسية.

الشارع الليبي.. المسمار الأخير

منذ الأربعاء 14 مايو 2025 لم تهدأ طرابلس، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع إلى ميدان الشهداء، وإلى مقر رئاسة الوزراء بطريق السكة، والهتافات كانت صريحة “الشعب يريد إسقاط الحكومة”، “يموت الشهداء، وحكم الدبيبة لا”، “تسقط حكومة التطبيع”، و”الدبيبة يقتل الشعب”، وصوت الجماهير تجاوز كل أسوار السلطة، وأصبحت الإرادة الشعبية أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.

لم يعد الحديث يدور حول خلاف سياسي بين الأجسام المتنازعة، بل عن بقاء حكومة فقدت شرعيتها القانونية والشعبية، واستنفدت آخر رصيد لها في الشارع، وكان الرأي العام يعبر عن حقيقة سياسية معروفة في ليبيا فمن يكرهه الشارع الطرابلسي لا يمكن أن يحكم ولا أن يقيم في العاصمة، ولا حتى أن يزورها.

الانقسام الداخلي… بين مكابرة رسمية واستقالات مصورة

في الوقت الذي تنهمر فيه الاستقالات، تصر حكومة الدبيبة على نفي كل شيء، فبيانها الرسمي تحدث عن أن “الوزراء يواصلون أعمالهم بشكل طبيعي”، في حين تظهر وجوههم على مقاطع فيديو يعلنون فيها الاستقالة بأصواتهم، وهذه الفجوة بين الخطاب الرسمي والحقيقة الميدانية تعكس واحدة من أكبر مشاكل هذه الحكومة، فهي إدارة تعيش في إنكار مطلق.

لم يتوقف التضليل عند البيانات بل وصل إلى حد اتهام المتظاهرين بأنهم “مندسون” حاولوا اقتحام مقر الحكومة، ولكن الوضع في الشارع كان يكشف وبشكل صارخ الإفلاس السياسي للحكومة التي تحتمي بالدبابات في وجه الجماهير، بينما يتسرب أعضاؤها من بين أصابعها.

الأمم المتحدة والولايات المتحدة دعتا إلى “ضبط النفس”، و”احترام الحق في التظاهر السلمي”، وكأنهما تتحدثان عن بلد يعاني أزمة انتخابية لا فوضى أمنية، أما الاتحاد الأوروبي فعبّر عن “قلقه”، في خطاب مكرر وعقيم، لا يحمل أي خطوة فعلية.

بدأ الفراغ السياسي الفعلي يظهر حين دعا المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب إلى تشكيل حكومة كفاءات وطنية خلال 48 ساعة، وهو إعلان غير رسمي لنهاية حكومة الدبيبة، حتى لو لم يصدر قرار الإقالة بعد.

الدبيبة: وحيد في وجه الجميع

بات عبد الحميد الدبيبة الآن معزولاً، فلا الشارع معه ولا الوزراء، حتى مدينته مصراتة التي تقف إلى جانبه، إلا أن بعض أعيانها يتململون من الوضع القائم، فـ”البيت الداخلي” يتهاوى، وسقف السلطة يتشقق، ورغم تأكيده المتكرر على حق التظاهر وحرية التعبير، فإنه لم يقدّم أي إشارة حقيقية إلى استعداده للتنحي.

الأخطر أن حكومة الدبيبة، وبدلاً من العمل على مخرج سياسي مشرف، اختارت استراتيجية إنكار الواقع، وتصدير الأزمة، والتشبث بالكرسي في وقت لم يعد للدبيبة أي قاعدة تسند وجوده.

عملياً الوضع لا يحتمل الكثير من السيناريوهات، فالحكومة سقطت فعلياً وبقي الإعلان الرسمي فقط، والتظاهرات لن تتوقف، والاحتقان الأمني قابل للانفجار في أي لحظة، والفراغ الإداري آخذ في الاتساع، والانقسام السياسي يعود إلى مربعه الأول.

الشارع الليبي الآن لا يبحث فقط عن رحيل حكومة، بل عن استعادة الكرامة، وإنهاء مرحلة من الفوضى والفساد والاستقواء بالمليشيات، والدبيبة الذي دخل المعترك السياسي بشعارات البناء والاستقرار، يغادره اليوم وسط اتهامات بإشعال الفوضى وتخريب العاصمة.

ما يجري اليوم في طرابلس ليس مجرد أزمة سياسية، بل إعلان فشل مرحلة كاملة من الحكم الهش، والصفقات والتسويات المؤقتة، فالمرحلة انكشفت على وقع صرخات الجماهير، ودموع العائلات، وأصوات الرصاص في قلب المدينة.

بقلم نضال الخضري

مقتل قيادي مسلح يشعل فتيل العنف في غرب ليبيا

اقرأ المزيد