19 ديسمبر 2024

ظلت تشاد عقدة حاسمة في شبكة النفوذ الفرنسية الواسعة في إفريقيا، ولكن رياح التغيير السياسي التي تجتاح منطقة الساحل تجبر المستعمرات الفرنسية السابقة على إعادة النظر في تحالفاتها.

بعد مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغيرها، تعيد تشاد النظر في علاقتها بفرنسا، ما يشير إلى احتمال انتهاء حقبة ما بعد الاستعمار من الهيمنة الفرنسية في إفريقيا، ويتجلى التحول واضحا عن الانتخابات العامة المقبلة في تشاد، ومكانتها العسكرية الإقليمية المتنامية، وإعادة تقييم تحالفاتها الخارجية.

الحدث الأهم سيجري في التاسع والعشرين من ديسمبر 2024، حيث ستعقد تشاد أول انتخابات عامة منذ عام 2011، وسيمثل هذا الأمر نهاية فترة انتقال سياسي مطولة بعد وفاة الرئيس إدريس ديبي إتنو وتولي ابنه محمد إدريس ديبي السلطة الذي نجح في تثبيت موقعه، فالانتخابات سيتم التنافس فيها على 188 مقعدا في الجمعية الوطنية، وستعين أعضاء المجالس الإقليمية والبلدية، وبشكل يشير للعودة إلى الوضع الطبيعي بعد سنوات من الانتقال.

ظهور الشرعية الجديدة هو تحد حقيقي فالمخاطر عالية ليس فقط بالنسبة لديبي الابن، الذي يعتمد توطيده السياسي على هذه الانتخابات، لكنها ستطال أيضا المعارضة التشادية وذلك بعد أن أعلن 16 حزبا معارضا عن مقاطعتها، متهمين الحكومة بالتخطيط للتلاعب بالنتائج، ومع وجود أكثر من 8.2 مليون ناخب مسجل، فإن الانتخابات على استعداد لاختبار النضج السياسي لتشاد وشرعية مؤسساتها الديمقراطية.

رحيل تشاد عن العلاقات الأمنية الفرنسية

أعلنت تشاد عن قرار تاريخي في 29 نوفمبر 2024 حيث أنهت اتفاقيات التعاون الدفاعي مع فرنسا، وواجهت الإليزيه انتكاسة جديدة في منطقة الساحل، وبرر وزير خارجية تشاد، عبد الرحمن كلام الله، هذه الخطوة باستعادة السيادة الكاملة، بعد أكثر من ستة عقود من نيل الاستقلال، ويمثل رحيل ما يقرب من 1000 جندي فرنسي متمركزين في تشاد نهاية حقبة، وسيدفع هذا الأمر نجامينا على البحث عن شراكات استراتيجية جديدة، ويؤكد هذا القرار على تراجع أوسع في النفوذ الفرنسي، ويعكس على الجانب الآخر مشاعر متنامية بين الدول الإفريقية لرفض العلاقات الاستعمارية الجديدة المتبقية وإعادة تعريف هوياتها الجيوسياسية، وينقل هذا الأمر مسألتين:

  • الأولى مرتبطة بجيش تشاد الذي يعتبر أحد أكفأ الجيوش في المنطقة، وهو ما يجعل قرار إنهاء الاتفاقية مع فرنسا تعزيزا لسمعة الجيش، وعلى عكس نظرائها الإقليميين الآخرين، لعبت تشاد تاريخيا دورا استباقيا في مكافحة التمردات، بما في ذلك المساهمة بقوات في الجهود المتعددة الجنسيات ضد بوكو حرام والجماعات الجهادية في منطقة الساحل، وهذا الاعتماد على الذات يضع تشاد في موقف لاعب رئيسي في الاستقرار الإقليمي يعيجا عن النفوذ الأجنبي.

تعتبر القيادة التشادية الانفصال الأمني عن فرنسا فرصة لتأكيد السيطرة على أجهزتها الدفاعية والأمنية، واختبارا حقيقيا لقوتها العسكرية ولجهازها السياسي في التفاوض على التحالفات بشروطها، وهو ما سيؤدي لاحقا إلى تقاربها من القوى غير الغربية مثل الصين وروسيا رغم من التوترات الحالية في هذه العلاقات.

  • الأمر الثاني مرتبط بالموقع الإقليمي للتشاد، فإنهاء اتفاقيات الدفاع مع فرنسا يضعها ضمن قائمة متزايدة من الدول الإفريقية التي تنأى بنفسها عن مستعمريها السابقين، حيث طردت مالي وبوركينا فاسو والنيجر القوات الفرنسية وعززت علاقاتها مع روسيا، في حين تتجه السنغال نحو الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس باسيرو ديوماي فاي.

يشكل إعادة تموضع تشاد الجيوسياسي مسألة معقدة، فعلاقاتها مع روسيا فاترة، ويرجع ذلك جزئيا إلى  الاحتجازات الأخيرة لعملاء روس في إفريقيا، وعلاقاتها التي تظهر بعض التوتر مع شرقي ليبيا تطرح أشكالا من المخاطر، وتضع العلاقات التشادية إقليميا ودوليا ضمن دائرة تحتاج لرسم استراتيجيات واسعة تستند إلى قراراتها الأخيرة في الخروج من الطوق الفرنسي.

السياق التاريخي: إرث معقد من النفوذ الفرنسي

إن الإرث الاستعماري لفرنسا في تشاد يتميز بالإهمال والاستغلال، وعلى النقيض من بعض المستعمرات حيث تم تطوير البنية الأساسية وأنظمة الحكم، استخدمت فرنسا تشاد في المقام الأول كمستودع للموارد، حيث استخرجت المواد الخام واستفادت من العمالة فيها، مع ممارسة الحد الأدنى من الاستثمار في التنمية،  وكانت الرقابة الإدارية محدودة، حيث كانت التوجيهات تصدر غالبا من أوبانجي شاري المجاورة (جمهورية إفريقيا الوسطى الآن) بدلا من نجامينا.

احتفظت فرنسا بعد الاستقلال بوجود عسكري، وتدخلت لدعم الأنظمة ومواجهة الحركات المتمردة، ووصلت العلاقة إلى أدنى مستوياتها في عام 2019 عندما استهدفت الغارات الجوية الفرنسية قافلة من الرهائن، وكان واضحا أن تشاد في طريقها إلى الانهيار، حيث تقدم الثوار من ليبيا بناء على طلب ديبي الأب، ورأت العديد من التقارير أن هذه التدخلات باعتبارها إدامة لاعتماد تشاد وتقويضا لسيادتها.

موازنة الضغوط المحلية والإقليمية

في حين يتم الاحتفال بقرار تشاد بإنهاء ميثاقها الدفاعي مع فرنسا باعتباره إنجازا سياديا، إلا أن التحديات تلوح في الأفق على الصعيد المحلي، فالحكومة ستواجه مقاطعة المعارضة، والاضطرابات المحتملة، واتهامات التلاعب بالانتخابات، وعلى الصعيد الدولي، يفرض رحيل القوات الفرنسية ضغوطا أكبر على تشاد لتأمين حدودها وإدارة التهديدات من الجماعات المتمردة في ليبيا والسودان، إضافة لذلك سيتم اختبار نفوذ تشاد الإقليمي مع توليها مسؤولية أكبر عن أمنها، ويمكنها أن تلعب دورا محوريا في تشكيل نظام إقليمي جديد خلال التحالفات مع جيران مثل السودان ونيجيريا أو من خلال الشراكات مع القوى العالمية الناشئة.

عمليا فإن قرار تشاد هو جزء من نمط أكبر من الانسحاب الفرنسي من إفريقيا، حيث تزايدت في السنوات الأخيرة المشاعر المعادية لفرنسا، مدفوعة بتصورات الاستغلال الاقتصادي والتدخل السياسي والتجاوز العسكري، وأعقب خروج فرنسا القسري من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وإغلاق السفارات والقواعد العسكرية، ما يشير إلى نهاية عصرها كقوة خارجية مهيمنة في المنطقة.

يعكس هذا الانحدار التحول الأوسع لإفريقيا نحو التنويع في العلاقات الخارجية، حيث تنخرط دول إفريقية بعلاقات مع شركاء غير غربيين، وتقف تشاد عند مفترق طرق، وانتخابات ديسمبر وإنهاء العلاقات العسكرية الفرنسية تظهر قطيعة مع الماضي وفرصة لإعادة تعريف مسار البلاد، وإذا تم إدارتها بشكل فعال، فإن هذه التطورات يمكن أن تعزز سيادة تشاد، وتعزز الاستقرار السياسي، وتعزز نفوذها الإقليمي.

بقلم مازن بلال

مشاريع روسيا للطاقة:  صورة الدعم الإيجابي للنهوض بالقارة الإفريقية

اقرأ المزيد