دخلت ليبيا جولة انتخابية جديدة في السادس عشر من أغسطس 2025، ولكنها جاءت مجتزأة وحملت معها كافة الانقسامات السياسية؛ ولم تجرِ العملية سوى في 26 بلدية فقط من أصل 63 كان مقرراً أن تشهد الاستحقاق.
عكست الانتخابات الليبية عمق الأزمة دون أن تفتح أفقاً نحو حل سياسي أو ديمقراطي، وتحولت إلى مسرح آخر للصراع بين الشرق والغرب، ونقلت معها تنافس القوى المحلية والدولية التي تتصارع على رسم ملامح ليبيا، فلم تكن هذه الانتخابات ركيزة أساسية لبناء الحكم المحلي وترسيخ المشاركة الشعبية، بل أوضحت أن الطريق لحل الأزمة يحتاج لتفكير سياسي جدبد.
مشاركة هزيلة وشرعية مثقوبة
رغم الدعاية المكثفة التي سبقت الاقتراع، بدت صناديق الاقتراع خاوية في معظم المراكز، فبحلول الساعة الثالثة ظهراً، لم يتجاوز عدد المقترعين 104 آلاف ناخباً، بينهم سكان طرابلس التي يزيد عدد قاطنيها عن المليون نسمة، وتعكس هذه الأرقام حالة عزوف شعبية عميقة، ناجمة عن فقدان الثقة بالعملية الانتخابية برمتها، حيث لم تعد صناديق الاقتراع تمثل وسيلة حقيقية لتغيير الواقع أو محاسبة النخب، بقدر ما باتت جزءاً من لعبة محسوبة النتائج سلفاً.

المفوضية الوطنية العليا للانتخابات سارعت إلى الإعلان عن نسبة مشاركة قاربت 71%، بما يعادل 161,684 ناخباً، غير أن هذا الرقم بدا منفصلا ًعن الوقائع الميدانية التي نقلها الصحفيون والمراقبون، الذين تحدثوا عن مراكز شبه فارغة وعن ضغط سياسي وأمني واسع على الناخبين والمرشحين.
فوضى أمنية وتدخلات سافرة
لم تخلُ العملية من العنف والتجاوزات، ففي بلدية السواني، شهدت المراكز إطلاق نار عشوائي أدى إلى تفريق الناخبين، فيما جرى حرق مكتب المفوضية في الساحل الغربي عشية الاقتراع، وفي زليتن، حيث أصرّت المفوضية على وصف العملية بـ”العرس الانتخابي”، بينما تحدث ناشطون حقوقيون عن محاولات تزوير ممنهج لصالح قوائم محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، بدعم من شخصيات نافذة في أجهزة الدولة.
هذه الممارسات لم تُسجَّل رسمياً كخروقات، إذ حرصت المفوضية على إصدار بيانات تؤكد “سلاسة العملية” وعدم رصد أي مخالفات، لكن الصور القادمة من الميدان كانت أكثر وضوحاً من أي بيان رسمي.
تبادل الاتهامات
سارع الغرب الليبي ومعه العواصم الأوروبية إلى إلقاء اللوم على الشرق وتحميله مسؤولية تعطيل الانتخابات في بعض البلديات، متجاهلاً حقيقة أن العملية برمتها جرت في ظل هيمنة الميليشيات على القرار في طرابلس ومصراتة، وتحت ضغط السلاح والمال السياسي.

ما تم تسويقه كـ”عرس ديموقراطي” لم يكن سوى مشهداً شكلياً، يفتقر إلى أبسط معايير النزاهة والاستقلالية، وفي المقابل، بدا واضحاً أن الشرق لا يرى جدوى من انتخابات محكومة مسبقاً بميزان قوة مختل، حيث يستحيل أن ينتج عنها تمثيل حقيقي أو تغيير ملموس في معادلة الحكم.
إن تبادل الاتهامات بين الشرق والغرب ليس سوى ستار يحجب لبّ المعضلة؛ فالأزمة الحقيقية تكمن في غياب ساحة سياسية متكافئة تُمكّن الليبيين كافة، من الشرق إلى الغرب، من التعبير عن إرادتهم بحرية، بعيداً عن قبضة السلاح وإملاءات الخارج.
المجتمع الدولي: إدانة بلا أدوات
وكعادتها، سارعت بعثة الأمم المتحدة والسفارات الأوروبية إلى إصدار بيانات تدين ما وصفته بـ”الأعمال الإجرامية” وتصف تعليق الانتخابات في الشرق بأنه “انتهاك صارخ” للحقوق السياسية، غير أن هذه البيانات لم تكن سوى صدى لمواقف الغرب الليبي نفسه، متجاهلة تماماً واقع الميليشيات التي تتحكم في العملية الانتخابية غرب البلاد، وتجعل من صناديق الاقتراع مجرد واجهة بلا مضمون.
عملياً أثبتت التجربة أن المجتمع الدولي لا يتجاوز دور المتفرج والموجِّه للنصائح، من دون امتلاك أي أدوات فعلية لضمان نزاهة أو حماية حقيقية للعملية السياسية، بل إن تدخله بات جزءاً من الأزمة، إذ يُستخدم خطاب الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي كغطاء لمنح الشرعية لطرف دون آخر، فيما يبقى الشرق، الذي يطالب بانتخابات عادلة ومتوازنة، متهماً ظلماً بأنه معطِّل للديمقراطية.
انتخابات بلا معنى؟
منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، شهدت ليبيا جملة من التجارب الانتخابية التي فشلت في إرساء قاعدة ديمقراطية متوازنة بين الشرق والغرب والجنوب، وتظل انتخابات عام 2014 المثال الأبرز من حيث التنظيم والشرعية على مستوى البلاد كافة، رغم التباينات السياسية والإقليمية آنذاك.

أما في المراحل اللاحقة، وخصوصاً منذ إطلاق المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية في نوفمبر 2024، فقد مالت الكفة بوضوح لصالح الغرب الليبي، حيث جرت الاقتراعات في مصراتة وطرابلس ومدن أخرى تحت سيطرة حكومة الوحدة الوطنية، فيما واجهت محاولات الاقتراع في الشرق ضغوطاً سياسية وأمنية أدت إلى تعطيلها.
المرحلة الثانية في أغسطس 2025 لم تغيّر هذا الواقع، إذ اقتصرت العملية على 26 بلدية من أصل 63، معظمها في الغرب، فيما بقي الشرق والجنوب على الهامش بذريعة الأوضاع الأمنية وقرارات إدارية، وترافقت العملية مع تدخلات مباشرة من قادة ميليشيات، مثل معمر الدّوي قائد الكتيبة 55 الموالية لحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، إضافة إلى انتهاكات واسعة شملت حرمان المراقبين من دخول بعض المراكز.
ورغم تسجيل نسب مشاركة نهائية عند الساعة 18:00، فإن المشهد على الأرض كشف مراكز شبه فارغة، ما جعل العملية برمتها أقرب إلى إعادة إنتاج ميزان قوة مختلّ، بدل أن تكون خطوة نحو تمثيل عادل أو تغيير حقيقي.
نحو استحقاقات أكبر؟
رغم أن الانتخابات البلدية لا تحمل نتائج عميقة على الوضع الليبي، لكن جرى التعويل عليها مراراً باعتبارها اختباراً تمهيدياً لإمكانية تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية المؤجلة منذ عام 2021، لكن أحداث 16 أغسطس أظهرت بوضوح أن الطريق إلى استحقاق وطني شامل لا يزال مسدوداً، فما دام السلاح والمال الفاسد يتحكمان في المشهد، فإن أي حديث عن انتخابات عامة لن يكون سوى ضرب من الخيال، كما قال عضو مجلس الدولة عادل كرموس.

إن بناء مؤسسات ديمقراطية في ليبيا لا يمكن أن يتم عبر صناديق اقتراع خاضعة للضغوط الميليشيات، بل يتطلب أولاً إعادة صياغة العقد الاجتماعي، وتوحيد السلطة التنفيذية، وإخراج العملية الانتخابية من قبضة السلاح، وإلا ستظل الانتخابات، كما حدث في أغسطس 2025، مجرد مهزلة تتكرر كل بضع سنوات، دون أن تفتح أي أفق حقيقي لبناء الدولة.
انتخابات البلديات في ليبيا ليست مجرد حدث إداري محلي، بل مرآة تكشف عمق الانقسام السياسي والاجتماعي.
وما جرى في 16 أغسطس هو دليل إضافي على أن الأزمة الليبية لا تختزل في صناديق الاقتراع، بل في غياب دولة قادرة على حماية هذه الصناديق وإعطائها معنى، بينما تبقى ليبيا عالقة في مرحلة انتقالية بلا نهاية، حيث الديمقراطية ليست سوى شعار أجوف، والانتخابات مجرد طقس بلا مضمون.
بقلم: نضال الخضري
إيطاليا تبرر إطلاق سراح مسؤول أمني ليبي رغم مذكرة توقيف دولية
