بشكل خارج عن المألوف الدستوري خرجت “الرئاسات الليبية” لتعلن عن كيان جديد اسمه “الهيئة العليا للرئاسات”؛ يضم المجلس الرئاسي، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، ورئيس المجلس الأعلى للدولة.
نظريا فإن الكيان الجديد إطار تنسيقي “لا يستحدث كياناً جديداً، ومهمته توحيد القرار الوطني، لكن خلف هذه اللغة الناعمة، تتشكل ملامح خطوة سياسية تعمّق الانقسام أكثر مما تعالجه، وتكشف عن محاولة إعادة توزيع للنفوذ في غرب ليبيا، واستباق لمعركة أوسع مع الشرق الليبي.
كيان بلا أسنان قانونية… لكن له أنياب سياسية
هذا الجسم لا يقوم على أي سند دستوري صلب، فالإعلان الدستوري وتعديلاته يمنح مجلس النواب وحده حق إنشاء الهيئات السيادية وإعادة تشكيل البنية القيادية للدولة، بينما الهيئة الجديدة وُلدت من اجتماع مغلق في طرابلس بين المنفي والدبيبة وتكالة واللافي، ثم قُدّمت للجمهور بوصفها “سلطة سيادية عليا” دون المرور بأي مسار تشريعي.

الحكومة المكلفة من البرلمان في الشرق، برئاسة أسامة حمّاد، كانت الأكثر جرأة اذ اعتبرت في بيان رسمي “الهيئة العليا للرئاسات” كياناً “منعدماً دستورياً وقانونياً”، ولا يترتب عليه أي مركز قانوني أمام مؤسسات الدولة، هذا الموقف لا يعبّر فقط عن اختلاف في القراءة القانونية، بل عن رفض سياسي صريح لمحاولة طرابلس رسم “سقف سيادي” جديد يتجاوز البرلمان.

على المستوى الحقوقي يبقى السؤال ما هي مشروعية “الرئاسات” أصلاً كي تنتج “هيئة عليا”؟ فهذه الأجسام غير منتخبة، تعمل بمنطق سلطات الأمر الواقع، وتبدو الهيئة مجرد مظلة إضافية لتكريس اغتصاب السلطة ومصادرة حق الليبيين في تقرير مصيرهم عبر الانتخابات.
ما يقدَّم للجمهور كإطار تنسيقي، يُقرأ كحزام أمان سياسي لأجسام منتهية الولاية تحاول إعادة إنتاج نفسها في لحظة يتزايد فيها الضغط الداخلي والخارجي لإنهاء المرحلة الانتقالية.
“وحدة القرار” أم إعادة هندسة النفوذ في طرابلس؟
إذا تجاوزنا اللغة الرسمية، يصبح السؤال الجوهري: لماذا الآن؟
منذ أحداث مايو في طرابلس إثر مقتل غنيوة الككلي، تعرّى الانقسام داخل معسكر الغرب نفسه، وتوترت العلاقة بين المنفي والدبيبة، وتبادلا إلغاء القرارات واستعراض الصلاحيات، في مشهد كشف هشاشة الترتيبات المؤسساتية التي قامت بعد حوار جنيف، ظهر أن المجلس الرئاسي فقد جزءاً مهماً من قدرته على لعب دور الحكم بين القوى المتصارعة في العاصمة، بينما عزّز الدبيبة شبكته الأمنية والمالية والإعلامية.
تأسيس “اللجنة الرئاسية العليا” في هذا السياق يبدو محاولة مزدوجة:
- ترميم صورة الوحدة داخل معسكر طرابلس عبر جمع الرئاسي والحكومة والمجلس الأعلى تحت سقف واحد.
- إعادة هندسة مركز الثقل لصالح الدبيبة، الذي يملك عمليا أدوات القوة التنفيذية والمالية، في مقابل مجلس رئاسي أضعف، ورئيس مجلس أعلى للدولة محمد تكالة يُنظر إليه منذ البداية كأحد رجال الدبيبة.
من الناحية الشكلية، الجميع شركاء، ولكن موازين القوة على الأرض ترجّح أن تتحول الهيئة إلى منصة تمنح قرارات الدبيبة ورؤيته السياسية غطاءً “سيادياً ثلاثياً” أكثر مما تشكل إطاراً حقيقيا ًللتوازن بين الأطراف.
شرق ليبيا يرد: من نفي الشرعية إلى التلويح بالحكم الذاتي
في المقلب الآخر، في بنغازي وما حولها، استُقبلت الخطوة كإعلان جبهة سياسية جديدة في مواجهة معسكر حفتر وحكومة حمّاد.
الباحث والأكاديمي الليبي، أسامة الشحومي، قدّم قراءة مختلفة جذرياً للهدف الحقيقي من تأسيس الهيئة، واعتبر ما يحدث تمهيد لمسار ينتهي إلى إقالة المشير خليفة حفتر من موقعه كقائد عام للجيش الليبي عبر دفعه إلى التقاعد، ثم صناعة صيغة “جيش مواز” على الطريقة السودانية، مع إحلال “قائد عام” جديد في الغرب، ورأى الشحومي أن الإطاحة برئيس جهاز المخابرات حسين العايب، وترقية شخصية أخرى إلى رتبة هي مؤشرات على أن شيئاً ما يُطبخ بهدوء في طرابلس.
بالتوازي، لوّحت حكومة الشرق بخيار الحكم الذاتي لإقليم برقة إن استمر تعطيل المسار الانتخابي، معتبرة أن الهيئة الجديدة تمثل سلوكاً معطلاً لهذا المسار، وتفتح الباب لأزمة دستورية مقصودة لتأجيل أي استحقاق ديمقراطي جديد.
من بدعة سياسية إلى “تشويش على الحوار الأممي”
المواقف الرافضة انطلقت أيضا داخل مجلس النواب، حيث وصف النائب سعيد امغيب، الهيئة بأنها “بدعة سياسية” خارج إطار الشرعية الدستورية والقانونية، ومحاولة لمنح طابع رسمي لأجسام منتهية الولاية ومرتهنة للأجنبي.
كما رأى أن الاجتماع الذي أعلن عنها يكشف حجم التخبط لدى من يحاولون إعادة إنتاج أنفسهم تحت شعارات لم تعد تقنع أحداً، وأن هذا التحالف العبثي لا يعبر عن إرادة الليبيين، بل يخدم أجندات خارجية تريد تمديد حالة التعليق السياسي لأطول فترة ممكنة.
وعلى جانب المجتمع المدني أعتبر صحفيون وناشطون، مثل ناصر الهواري وإبراهيم المجبري، أن الهيئة محاولة لـ”شرعنة بقاء هذه الأجسام الثلاثة في السلطة”، واستخدام الخوف من “الشرق” لتبرير خطوة هدفها الحقيقي إعادة ترتيب النفوذ داخل طرابلس، وليس توحيد القرار الوطني.
السردية الرسمية: انسجام مؤسسي أم تجميل للأمر الواقع؟
في مواجهة هذه الانتقادات، يصر المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة والمجلس الأعلى على سردية مختلفة، فالهيئة، وفق بياناتهم، ليست مؤسسة جديدة، ولا تُحدث أي عبء إداري أو هيكلي، بل هي “إطار تنسيقي” يهدف لتوحيد القرار الوطني في الملفات الاستراتيجية، وتطوير منهجية موحدة لصنع القرار، وتنسيق الموقف الرسمي في القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية، مع دعوة باقي المؤسسات السيادية للانضمام إلى هذا المسار.
لكن الإشكال يكمن في أن “التنسيق” هنا يتم من جهة ليبية واحدة، وبمشاركة هيئات لا تحظى بتفويض انتخابي، ولا تملك صلاحية إنتاج “سلطة سيادية عليا”، فما يجري هو محاولة لترتيب البيت الداخلي لمعسكر الدبيبة، مع تقديمه للخارج كخطوة نحو توحيد الدولة، بينما هو تكريس لواقع الانقسام الليبي.
تأثير مباشر على مسار الأمم المتحدة وخارطة الطريق
تشكيل “اللجنة الرئاسية العليا” يأتي في وقت تحاول فيه بعثة الأمم المتحدة إعادة إطلاق المسار السياسي عبر خارطة طريق تمتد من 12 إلى 18 شهرا؛ تشمل إعداد إطار انتخابي متماسك، وتوحيد المؤسسات عبر حكومة جديدة، وصولاً إلى حوار وطني موسع.

بدل أن تُسهم الهيئة في تسهيل هذا المسار، تبدو أقرب إلى محاولة استباقه وتطويعه، فمن يملك “السلطة السيادية العليا” المعلنة في طرابلس سيسعى منطقياً إلى أن يكون شريكاً مفروضاً في أي ترتيبات أممية جديدة، وأن يحتفظ بموقع تفاوضي أعلى من بقية الأطراف، بما في ذلك البرلمان وحكومة الشرق.
هذا الأمر يغذي خطاب الرفض في بنغازي، ويبرر التحذيرات من أن الهيئة “تعطل المسار الانتخابي” وتدفع البلاد نحو مزيد من الانقسام وربما صيغ شبه فيدرالية أو حكم ذاتي، خاصة في برقة.
إلى أين تتجه “اللجنة الرئاسية العليا”؟
يمكن استشراف ثلاثة مسارات محتملة لهذا الكيان:
- تحوله إلى غرفة قيادة سياسية لمعسكر طرابلس
في هذا السيناريو، تتحول الهيئة إلى منصة لاتخاذ القرارات الكبرى في الغرب، من التعيينات الحساسة إلى الترتيبات الأمنية والمالية، مع منحها غطاءً “سيادياً ثلاثياً، ما يعزز موقع الدبيبة، ويُضعف قدرة المجلس الرئاسي على لعب دور مستقل، ويزيد من توتر العلاقة مع الشرق. - تحوله إلى ورقة ضغط في التفاوض مع الأمم المتحدة والشرق
يمكن أن تستخدم الهيئة كأداة تفاوضية، فتعتبر نفسها “السلطة السيادية العليا” في الغرب، ولا يمكن تجاوزها في أي تسوية، وتصبح وظيفتها الأساسية حماية مواقع الأشخاص الموجودين حالياً في السلطة خلال المرحلة المقبلة، أكثر من تقديم حلول للأزمة. - نهاية سريعة إذا فشل في إنتاج مكاسب حقيقية
ليس مستبعداً أن يتحول هذا الكيان إلى مجرد عنوان جديد في تاريخ طويل من الأجسام المؤقتة التي وُلدت كبيرة في البيانات، ثم اختفت في زحمة الواقع، فإذا عجز عن إنتاج قرارات مؤثرة، أو تزايد الضغط الدولي والداخلي لإجراء انتخابات، يتحول إلى تفصيل ثانوي في مسار أكبر يتجاوزه.
الثابت حتى الآن أن “اللجنة الرئاسية العليا” لم تُقنع خصومها في الشرق ولا جزءاً كبيراً من الرأي العام في الغرب، وهي كيان بلا معنى قانوني واضح، لكنه يحمل معاني سياسية ثقيلة، فالخطوة تكشف نخبة حاكمة منقسمة، تحاول إدارة الأزمة بدلاً من حلها، وتستثمر في الزمن بدل الاقتراب من لحظة الحقيقة الوحيدة القادرة على إعادة ترتيب المشهد الليبي بالكامل، وهي صناديق الاقتراع.
بقلم: نضال الخضري
مصرف ليبيا المركزي يعلن سحب فئات نقدية من التداول
