22 نوفمبر 2024

تلخص أحداث النيجر طبيعة الصراع في غرب إفريقيا عموماً، وتقدم نموذجاً للتنافس الجيوسياسي الروسي - الأمريكي وتحولات موازين القوى الدولية بعد خروج فرنسا من أحد مستعمراتها القديمة.

بقيت النيجر على هامش الحدث السياسي طوال عقدين رغم مناجم اليورانيوم التي تستثمرها فرنسا، ولم تشكل مناجم الذهب أي فارق في معالم البلد الذي استند إلى الزراعة، والفارق الأساسي ظهر مع نشاط المجموعات المتطرفة التي صاغت المعادلة السياسية في النيجر، فسمة الاضطراب السياسي لم تفارق هذا البلد الذي شهد ثلاث انتخابات منذ عام2011؛ رافقتها عدة محاولات انقلابية فاشلة انتهت العام الماضي بنجاح الجنرال عبد الرحمن تشياني في الوصول إلى الحكم.

المفارقة الأمريكية
أول الخاسرين من الأحداث في النيجر كانت فرنسا التي سحبت قواتها من البلد المنهك اقتصادياً وسياسياً، لكن الوجود الأجنبي العسكري أو حتى عبر الاستثمارات بقي في النيجر، واستمرت معه المفارقة التي تطرحها مسألة مكافحة الإرهاب، حيث تبدو الولايات المتحدة في عمق الصورة التي تتضح أكثر مع استخدامها للنيجر كقاعدة أساسية لمراقبة الجماعات المتطرفة على طول الخط من البحر الأحمر في أثيوبيا وصولا إلى موريتانيا والسينغال، رغم أن النيجر لم تكن موطنا لجماعات متطرفة مثل “بكو حرام”، وتحديات الإرهاب التي ظهرت منذ عام 2000 لم تتحول إلى مواجهة حقيقية إلا بعد 2015 عندما شرعت النيجر في التعاون العسكري الدولي لمكافحة الإرهاب.

عمليا فإن الانقلاب العسكري جاء بعد عامين من أول عملية إرهابية كبيرة جرت في 17 مارس 2021 وأوقعت 58 قتيلاً غرب البلاد، ورغم التواجد العسكري الغربي عموما لكن النيجر بقيت ضمن دائرة العنف مع باقي دول الساحل الإفريقي، فالوجود العسكري واستخدام “القوة الناعمة” الأمريكية عبر المساعدات لم يوقف الإرهاب، ولم يستطع كسر دائرة الفقر والأزمات الاقتصادية رغم الثروات التي يمكن للنيجر الاستفادة منها.

يوضح الجدول السابق أن النيجر تمثل أكثر من قاعدة لمحاربة الإرهاب، فهي نقطة ارتكاز أساسي على الأخص بالنسبة للولايات المتحدة وفرنسا، لكن هذا الانتشار يرسم ملامح حرب أخرى على المستوى الاقتصادي، فالمعارك حيَدت كافة الاستثمارات في النيجر، وكان واضحا أن مسألة “تحييد” الثروات ترتبط مباشرة بحرمان الشركات في روسيا والصين من الاستثمار في تلك المنطقة، فالنيجر التي تملك احتياطيات كبيرة من اليورانيوم والذهب ماتزال أسيرة الجفاف والتصحر، وباتت الصراعات في مناطق الذهب وباقي الثروات جزءا من خريطة العنف في النيجر، ويقدم الجدول التالي صورة أولية عن حجم العجز الاقتصادي رغم كافة التدخلات الغربية:

الاحتكاك الروسي – الأمريكي
بعد أربعة أيام فقط من الهجوم الارهابي في موسكو الذي حدث 22 مارس أجرى رئيس المجلس العسكري في النيجر الجنرال عبد الرحمن تيان محادثة هاتفية مع الرئيس بوتين، ليؤكد مخاوف واشنطن من التحولات التي تشهدها البلاد، حيث ظهر مثلث جغرافي يضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر في مواجهة النموذج الغربي في الساحل الإفريقي، وجاء إعلان المجلس العسكري في النيجر إنهاء الاتفاق الذي يسمح للقوات الأميركية بالعمل في البلاد بعد أيام من زيارة وفد أميركي؛ ضم قائد القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا، الجنرال مايكل لانغلي، ومولي، مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية، وانتقد الوفد المجلس العسكري وعدم شفافيته بشأن من سيشارك في الحكم مستقبلا، فالإدارة الأميركية لم تدن انقلاب 26 يوليو في النيجر، واكتفت بدعوة المجلس العسكري للعودة إلى المسار الديمقراطي، وفي المقابل لم يطالب المجلس العسكري الولايات المتحدة إخلاء قواعدها كما فعلوا مع فرنسا.

يمكن النظر إلى الهدوء الأمريكي الذي أعقب الانقلاب بطبيعة الاحتكاك المتوقع مع روسيا، فالنيجر لها موقع محوري في غرب إفريقيا، ولديها حدود مع سبع دول، ورؤية الولايات المتحدة كانت تتلخص بنقطتين:

• الأولى أن النيجر يمكن أن تشكل حصنا ضد انتشار الجماعات الجهادية التي زعزعت استقرار المنطقة، وهو ما جعلها تتعاون بكثافة معها.
• الثاني أنها منطقة تماس مع تشاد وليبيا وهما دولتان تشهدان تجاذبا دوليا بين واشنطن موسكو، وإذا كانت ليبيا هي النقطة الأكثر توترا فإن تشاد تشكل مفتاحا للصراع في السودان.

لم يستعجل المجلس العسكري فتح جبهة مع الولايات المتحدة لكنه في النهاية طالب بإنهاء الاتفاقيات العسكرية مع واشنطن، وذلك في إشارة إلى تحول جذري في توجهات السياسة الخارجية للنيجر، فالوجود العسكري الأمريكي في القاعدة الجوية 101 في نيامي والقاعدة الجوية 201 بالقرب من أغاديز، يعتبره البنتاغون مهماً، حيث سهلت هذه القواعد مهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع التي تستهدف الجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش.

الجانب الآخر للتواجد العسكري الأمريكي يبقى الأهم، فمهما كانت المبررات بشأن مكافحة الإرهاب عناوين يمكن طرحها، لكن الواضح أن الصراع في النيجر هو شكل من أشكال “التصفية” التي تقوم بها واشنطن لمنافسيها الدوليين في القارة الإفريقية، وعلى الأخص أن الانقلاب في النيجر يتزامن مع التقارير التي تتحدث عن تزايد النفوذ الروسي في غرب إفريقيا، وما يحدث بالفعل هو انهيار النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة في إفريقيا، حيث تتجاوز روسيا (وفي سياقات أخرى الصين) الهيمنة الغربية في منطقة الساحل، وهو بنحو آخر يدلل على فشل نموذج مكافحة الإرهاب وفي الآلية الأمريكية والأوروبية عموما.

منذ بداية الحرب الروسية – الأوكرانيا حدثت تغيرات سياسية كبرى تعزز دور الجنوب العالمي على المستوى العالمي، وأكدت القمة الروسية الإفريقية بحضور بوتين اعتراف روسيا بأهمية إفريقيا، والتوجه في النيجر يسلط الضوء على التحول في محاور الصراع الدولي، واتجاهات جديدة في إطار التعاون الذي يمكن أن يحمل حالة طموحة في إفريقيا لمواجهة التحديات خارج النموذج الأمريكي، وبشكل يجعل من التنسيق مع موسكو محورا لسياق علاقات إفريقية جديدة مع العالم.

بقلم مازن بلال

فرنسا والمغرب العربي: ماكرون ومحاولات التوازن الدبلوماسي

اقرأ المزيد