منذ نهاية الخمسينيات أعاد النفط صياغة التاريخ السياسي لليبيا، فالمستعمرة الليبية السابقة تحولت من ساحل يشكل النقطة الأقرب نحو أوروبا إلى نقطة التقاء للصراع على الطاقة.
بدت ليبيا في قلب شمال إفريقيا مساحة للممكنات التي تنتظر أشكال الاقتصاد الحديث، ورسمت احتياطاتها المكتشفة في خمسينيات القرن الماضي ظلالا لمستقبل من التحديات، فرحلة ليبيا عبر عصور الاستكشاف والاستثمار كتبت عمليا مسيرة الحدث منذ عام 1958 عندما تم اكتشاف أول حقل للنفط، ومثل هذا الحدث بداية حقبة شهدت صعود ليبيا إلى موقع محوري على مسرح التنافس الدولي.
ظهرت أولى بوادر الذهب الأسود في صحاري زلطن، وتغيرت صورة ليبيا من خلال خطوط النفط التي تربط المناطق الداخلية بالساحل، فبعيدا عن الاقتصاد كان لهذه الأنابيب دورا في جمع البلد حول مركزية سياسية رغم الشكل الفيدرالي الذي ظهرت عليه بعد الاستقلال، فالنفط الليبي الذي يتميز بخفته وجودته تحول إلى عامل مزدوج اقتصادي واجتماعي، وجعل من الصعب رؤية ليبيا وفق صورة لا يترابط فيها الشرق مع الغرب، وهذا الأمر كان جوهريا وحول الملكية السنوسية إلى دولة اتحادية ثم دولة موحدة في عام 1963. فالشركات النفطية العالمية التي وصلت إليها شكلت جملة مصالح مترابطة ما بين الشركات المستثمرة، مثل شركة ENI الإيطالية، وتوتال الفرنسية ووشركة BP البريطانية، وكانت الشركات الأمريكية تسيطر على نحو 90 بالمئة من قطاع النفط الليبي في العهد الملكي (1951-1969) قبل أن يؤمم الرئيس الليبي معمر القذافي القطاع في 1974، ويضيق الخناق عليها، ما أدى إلى تقلص نشاطها بشكل تدريجي وصولا لأحداث 2011.
كان احتياطي ليبيا النفطي، وهو الأكبر في إفريقيا ويحتل المرتبة التاسعة عالميا، عاملا رئيسيا في تاريخ البلاد الحديث، وتشكيل اقتصادها وسياستها وعلاقاتها الدولية. وأدى اكتشافه لتحويل ليبيا من مملكة صحراوية هامشية إلى لاعب مهم في سوق الطاقة العالمية، وفي عام 2010 كانت ليبيا تملك احتياطيات تبلغ 46.4 مليار برميل، ووصل إنتاجها إلى 1.65 مليون برميل يوميا، وعندما ألقى شبح الاضطرابات السياسية عام 2011 بظلاله على ليبيا، فإن مسار الحدث تشكل على إيقاع البحث بين الشركات العالمية على مساحة الاستثمار المرتقبة التي هيأتها ظروف الصراع الليبي الداخلي.
ديناميكيات الاستعمار وما بعده
أصبحت ليبيا عام 1961 بلدا مصدرا للنفط، وتم توصيل حوالي 167 كيلومتراً من أنابيب النفط بين الداخل الليبي والساحل، وامتلكت ميزة “الجذب” للمستثمرين والقوى الأجنبية، فانخفاض تكاليف الإنتاج وقربها من الأسواق الأوروبية كونا عاملين أساسيين في المصالح الأوروبية وحتى الأمريكية نحو صحراء ليبيا، وشكل التاريخ المعقد لقطاع النفط الليبي صورة العلاقات الدولية مع الحكومة الليبية، حيث أظهر الأوروبيون ميلا قويا للتأثير في السياسة الليبية لضمان مصالحهم في مواردها النفطية الهائلة، وسهلت القوانين التي تم وضعها عام 1955 وظهرت بموجبها المؤسسة الليبية العامة للبترول عمليات التنقيب والإنتاج، وكونت مركزيتها في إدارة شؤون إنتاج وتكرير وتصدير النفط في ليبيا عامل في تقوية الحكومة والدولة الليبية، ويوضح الجدول التالي التطوير السريع لقطاع النفط وتأثيره في ربط المناطق الليبية عبر شبكة الإنتاج والتوسيع:
شكل قطاع النفط والغاز العمود الفقري للاقتصاد الليبي، وأصبح المصدر الرئيسي للإيرادات، وارتبط تطوره بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية في ليبيا، ورسم أيضا تحديات بدأت تكبر بعد استلام معمر القذافي الحكم ليتحول إلى عامل استراتيجي أثر على مجمل الشمال الإفريقي.
التنافس الأوروبي
ظهر التنافس على ليبيا بأوسع صوره ما بين إيطاليا وفرنسا، ورغم أن جذور هذا الأمر تعود إلى العصور الاستعمارية في أوائل القرن العشرين، لكنها تطورت إلى شبكة معقدة من الارتباطات الدبلوماسية والاقتصادية في حقبة القذافي وما بعده، ورغم أن الرئيس السابق معمر القذافي حاول استيعاب النفوذ الأوروبي، وسعى لفصل المواقف السياسية لبلاده عن الاستثمارات النفطية، لكن إيطاليا وفرنسا بقيتا المشغلين الرئيسيين لقطاع النفط، بينما تعاملت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مختلف خلال العقدين الأولين من حكم القذافي، ولم تتعامل بتنافس مع الأوروبيين، فما كان يهمها هو حجم النفط الليبي في الأسواق العالمية، وتدفقه باتجاه الأسواق لكي لا يؤثر على أسعار النفط العالمية، وعملت شركة هالبيرتون الاميركية في تطوير قطاع النفط الليبي طوال مرحلة معمر القذافي، ويوضح الجدول التالي الشركات الأجنبية العالمية في مجال استثمار النفط في ليبيا:
الاضطرابات السياسية
كان واضحا منذ قضية “لوكربي” واتهام ليبيا بإسقاط طائرة “بان أمريكان” فوق هذه المدينة الإسكوتلندية؛ أن ليبيا أصبحت في مرمى الولايات المتحدة، وأن النفوذ المالي المتراكم من النفط الليبي يزعج الولايات المتحدة، وتسوية هذه القضية لم ينهِ الاستراتيجية الأمريكية تجاه حكم الرئيس معمر القذافي الذي امتلك عبر عقود تأثير كبير في الشمال الإفريقي.
حقبة ما بعد عام 2011 لم تكن مجرد صراع على النفط، حيث دخلت قوى مختلفة في الصراع بما في ذلك روسيا وتركيا، وبدا توزع القوى على الجغرافية الليبية ما بين الشرق والغربي عودة إلى حقبة الخمسينيات، وبالتأكيد فإن الولايات المتحدة تملك تصورا لتحييد النفط في تكوين شكل ليبيا المعاصر، وتحويله من نقطة تجميع للدولة إلى عامل تنافس يشتت الدولة والمجتمع الليبيين.
بقلم نضال الخضري
أول تصريح لمؤسس “تلغرام” حول اعتقاله في باريس