يشغل المشهد الأمني في طرابلس مساحة واسعة من عمل حكومة طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، حيث أصبح الغرب الليبي يحمل صورة قاتمة مع صدامات دائمة أسقطت فعلياً شرعية الحكومة.
يمكن اعتبار محاولة الحكومة إيجاد بيئة مستقرة والتقليل من احتمال الصدام بين المجموعات المسلحة حالة من العبث السياسي، فالتشابك ما بين الوضع الأمني والنخب السياسية هو أعقد من مسألة وضع خطط للتعامل مع هذا الواقع.
والتجربة في طرابلس منذ سقوط القذافي توضح أمرين: الأول هو التعمد في جعل السيادة الليبية خاضعة لوجود المجموعات المسلحة وليس لمركزية الدولة، فحكومة الدبيبة جعلت من الواقع المضطرب جزءاً من مؤسسات الدولة، وأوجدت كتائب عسكرية أصبحت بحد ذاتها جزء من خارطة الوجود المسلح في طرابلس.
وأما الأمر الثاني مرتبط بشكل مباشرة بالتغييرات الأمنية التي تقودها حكومة عبد الحميد الدبيبة المنتهية ولايتها، فأي شكل أمني جديد يتطلب في النهاية كسر العلاقة مع المجموعات المسلحة التي خلقت لنفسها مراكز قوة داخل الحكومة، أو حتى ضمن توازن المصالح في الشرق الليبي عموماً.
وأن معالجة الوضع الأمني الفوضوي الذي تفاقم بسبب الميليشيات المسلحة والفصائل السياسية المتصارعة يشكل حالياً بنية الغرب الليبي، ويعبر عن المشهد السياسي الذي لا يملك سوى قدرته على الاستمرار بفعل ارتباطه بمصالح دولية وإقليمية.
طبيعة التغييرات الأمنية الجديدة
بالنسبة لحكومة الدبيبة فإن التدابير الأمنية الجديدة في طرابلس تشكل جزءاً من استراتيجية أوسع نطاقاً لتحقيق الاستقرار في المدينة، وضمان سيطرة الحكومة على البنى الأساسية الحيوية.
وبغض النظر عن واقعية هذه الإجراءات إلا أن اللافت أنها تتعامل بشكل إداري مع مراكز القوى التي تشكلها المجموعات المسلحة؛ عوضاً عن تصحيح الخلل الذي يربط البنية السياسية بهذه الميليشيات، حيث وتشمل هذه التدابير الأمور التالية:
1- تشكيل لجنة أمنية رفيعة المستوى بقرار من رئيس الوزراء الدبيبة، وهي لجنة أمنية مكلفة بالإشراف على إعادة تنظيم قوات الأمن في طرابلس.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو عن السلطة التي تستطيع هذه اللجنة فرضها على المجموعات المسلحة؟ فاللجنة التي يرأسها وزير الداخلية بالوكالة عماد الطرابلسي، وأعضاء من مختلف فروع الأمن والجيش، تواجه معضلتين.
الأولى هي توازن القوة بين الكتائب التابعة لوزارة الداخلية ومجموع الفصائل المنتشرة في غرب ليبيا عموماً، فحكومة طرابلس لا تملك جيشاً يخضع لقيادة مركزية، إنما كتائب وفرق متنوعة غالبيتها تتنافس فيما بينها، ومعظمها تم إعادة تنظيمه من بعض الفصائل ثم أُخضعت إدارياً لوزارة الداخلية، أما المعضلة الثانية فمرتبطة بالتناقض بين سلطة هذه اللجنة والنخب السياسية المشاركة في الحكومة، فالفصائل بغالبيتها لها أذرع سياسية داخل الحكومة.
2- تقضي الترتيبات أيضاً بانسحاب الجماعات المسلحة وهو أحد الأهداف الأساسية للخطة الأمنية، لكن هذا الانسحاب يقضي “تجميعها” في قواعدها، وهو اعتراف رسمي بامتلاكها لقواعد داخل أو في ضواحي المدينة، ما يعني بالضرورة الاعتماد عليها وربما إعادة نشرها.
والهدف من هذه الخطوة إنهاء الوجود الإعلامي للميليشيات المسلحة في الشوارع، بحيث تصبح بعيدة عن الرصد الدائم وربما سيريح هذا الأمر المواطنين، لكنه لا يعني أنها لن تعود مجدداً لعدم وجود رادع حقيقي يمنعها من ممارسة أدوار خارج القانون.
3- تقضي خطة الحكومة بتوحيد الوظائف الأمنية، وإذا كان الشرق الليبي استطاع بالفعل تأمين هذا التوحيد فإن ما جرى هو إيجاد جيش وطني مسؤول عن الاستقرار، ويوفر بيئة لظهور أجهزة أمنية محلية.
والسؤال الأساسي هنا هل يمكن لحكومة الدبيبة القيام بالأمر نفسه مع عدم وجود ردع حقيقي لكافة المجموعات المسلحة؟”
والصورة الأولية توضح أن الوحدات الأمنية الخاصة بوزارة الداخلية هي نفسها تخوض صراعات فيما بينها، وكل وحدة تعتبر أن لديها مناطق نفوذ داخل العاصمة بالدرجة الأولى.
وإذا كانت حكومة الدبيبة تريد حماية المؤسسات الحكومية فإنها في نفس الوقت تمنح لبعض الوحدات الأمنية صلاحيات جديدة ومستقلة، ففوضى المرجعية الأمنية لا يمكن حلها دون تحول جذري في الشكل السياسي الذي تقوم عليه الحكومة بذاتها.
4- أخطر ما في إجراءات حكومة طرابلس هو السيطرة على البنية الأساسية الحيوية، بما في ذلك المطارات والموانئ البحرية والمعابر الحدودية، والتي تخضع بشكل مباشر، وأحياناً غير مباشر، لتأثير الميليشيات المختلفة.
وترمز هذه المنشآت عملياً إلى سيادة الدولة، وما ستقوم به الحكومة ليس جرأة بقدر كونة “مساومة” مع المجموعات التي تسيطر على البنية الحيوية للدولة، فمع عدم وجود قوة رادعة فإن الإجراءات الحكومية ستكون ضمن إطار منح الميليشيات مكاسب لقاء تخليها عن الرموز السيادية للدولة.
5- أخيراً فإن الحكومة تعترف رسمياً بأنها لا تملك أيا من المفاصل التي يجب على الدولة التحكم بها، خصوصاً عندما تتحدث عن الترتيبات الأمنية الجديدة وعن تنظيم مراكز الاحتجاز والسجون، فالدولة بالتعريف الدولي هي من يحتكر القوة، لكنها خلال السنوات السابقة تركت هذا الأمر للمجموعات المسلحة وذلك على حساب استمرار الحكومة الحالية.
وبالتأكيد فإن خطط حكومة طرابلس تندرج ضم إطار “العلاقات العامة” التي تريد عبرها الترويج لسياساتها، ومهما كانت قدرتها على تنفيذ هذا الأمر، أو عجزها عنه كلياً فإنه في النهاية عليها الاعتراف بأن الفشل الأمني طوال السنوات السابقة لا يمكن تعويضه بترتيبات أمنية فقط.
فحكومة طرابلس استمرت بفعل الفوضى الأمنية وسياساتها العامة التي كانت قائمة على أساس وجود مراكز قوى عسكرية لها غطاء سياسي محلي من خلال الحكومة، ودولي أيضاً عبر التعاون المباشر في كثير من الأحيان بين أجهزة الاستخبارات الغربية وقادة المجموعات المسلحة.
وإن عملية نزع السلاح هي خطة سياسية بالدرجة الأولى وليست مجرد إجراءات أمنية، فعندما تتيح الحكومة للقوى السياسية كي ترسم مصير البلاد وتقوم بحمايتها عندها يمكن الدخول في إجراءات تلغي شرعية السلاح الممنوح حالياً للميليشيات التي ستجد نفسها دون غطاء سياسي أو حتى مالي يوفر بقاءها.
والغرب الليبي لا يستطيع إنهاء الاضطراب والتوتر طالما بقيت الحكومة تطيل من أمد الأزمة عبر إيجاد حلول أمنية لا تملك أي أرادة سياسية لتحقيقها.
بقلم نضال الخضري
ليبيا.. اتفاق بين مؤسسة النفط والمصرف المركزي على تحويل الإيرادات بصورة مستمرة ومنتظمة