لم يكن الاستعمار الإيطالي لليبيا مجرد حدث في تاريخ أكبر دولة نفطية في إفريقيا، وأحد أهم البلدان على خريطة الشمال الإفريقي، وإنما جزء من ماض مازال يعاني الليبيون حاضره، ويكافحون للتخلص منه.
فالحاضر الليبي مسكون بكل أحداث بداية القرن العشرين، وبذاكرة مشبعة بصور الاحتلال وأشكال الاستبداد والنفي الذي شهدته ليبيا في الحقبة الاستعمارية، التي تحاول روما استثماره بكل أدواتها.
السياسة الإيطالية تذهب بعيداً في هذا المجال، وتستحضر عصر الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس الليبي المولد، والذي شكل رمزاً تم استثماره خلال صراع إيطاليا الحديث لبناء مستعمراتها.
مشهد تاريخي مضطرب
استخدمت الدعوات الإيطالية في أوائل القرن العشرين شخصيات تاريخية مثل سيفيروس لإضفاء الشرعية على طموحاتها الاستعمارية، وكان استحضار الماضي وسيلة لحشد الدعم بين الإيطاليين، حيث كان استعمار ليبيا مثار خلاف، وهو ما دفع مثقفون وشعراء لتصدر حملة الترويج لغزو الإيطالي للأراضي الليبية، ومثلت قصائد غابرييل دانونزيو هذا الاتجاه حيث استعاد بشعره مجد علاقات روما التاريخية بالمنطقة.
اصطدمت الطموحات الإيطالية بالمقاومة الليبية التي شكلت مع القوات التركية عائقاً، وحوّلت الغزو الإيطالي من مناورة عسكرية سريعة إلى صراع طويل الأمد، خاصة مع بدء الحرب العالمية الأولى، التي شهدت اشتداد المقاومة الليبية وتعرضت القوات الإيطالية لهزائم متكررة، لكن وصول الفاشيين إلى السلطة لاحقاً، غير تكتيكات الغزو إلى حرب شاملة، بما في ذلك إنشاء معسكرات الاعتقال وسياسة الأرض المحروقة.
ورغم هذه الحملة الوحشية استمرت المقاومة الليبية بقيادة شخصيات مثل عمر المختار، إلى أن دفعت الهزيمة الإيطالية في نهاية المطاف، في الحرب العالمية الثانية، إلى إعادة تقييم المشروع الاستعماري الإيطالي.
رحلة المقاومة الطويلة
كان الخطاب الإيطالي بشأن احتلال ليبيا يتحدث عن الحضارة والتحرير من الإهمال العثماني، لكن الحدث كسر الذرائع التي بدأها الجنرال الإيطالي كارلو كانيفا، حاكم طرابلس الغرب بين أكتوبر 1911 وحتى سبتمبر 1912، بتصريحاته عن السلام، ولكنه أشرع في ارتكاب مجزرة ميدان المنشية بطرابلس التي ذبح فيها الآلاف بدءً من الأطفال وحتى كبار السن؛ الأمر الذي أشعل المقاومة من قلب ثقافة المجتمع الليبي متجلية بالطريقة السنوسية.
السنوسية، هذه الحركة الصوفية شكّلت جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي للمجتمع الليبي، وقادها في تلك المرحلة أحمد شريف السنوسي، وتجاوزت الجماعة أسسها الدينية لتصبح منارة للتحرر الوطني عبر تعبئة سكان المدن زعماء القبائل وعامة الناس، وتحولت حركة السنوسي الليبية إلى جبهة كبيرة ضد التوغل الإيطالي.
عملياً فإن العدوان الإيطالي أدى لتوحيد القبائل والمناطق الليبية المتباينة، وشكّل هوية مشتركة من خلال المقاومة، وظهر قادة بارزون استطاعوا تجميع الليبيين من أجل الدفاع عن الأرض، ومن بينهم عمر المختار الذي أصبح اسمه مرادفاً للصمود الليبي.
اتسمت المقاومة الليبية بمعارك ضارية ضد القوات الإيطالية المتفوقة عسكرياً مع شعور بالتفوق العنصري، واستخدم الليبيون تكتيكات حرب العصابات والمعرفة الوثيقة بالتضاريس في حربهم ضد المستعمر الإيطالي.
دفعت المقاومة ثمناً باهظاً في دفاعها عن الأرض الليبية، وذاكرة الليبيين ماتزال تحمل صور، ولم تخل المقاومة من شهدائها الذين أضفت تضحياتهم على النضال هالة مقدسة، فبحسب التقديرات بلغ عدد شهداء المعارك من الليبيين في المرحلة الأولى 33.181 شهيداً.
الجانب الآخر من المعاناة الليبية ظهر في المعتقلين الذين بلغ عددهم 37.763 مواطناً أغلبهم من الجبل الأخضر، حيث لقي غالبية هؤلاء المعتقلين حتفهم داخل المعتقلات الجماعية المحاطة بالأسلاك الشائكة والألغام، فمن لم يمت بالجوع والبرد حصدته حقول الألغام المزروعة حول تلك المعتقلات التي ما زالت تحصد أرواح الليبيين حتى اليوم.
وفي المقابل فإن الإيطاليين أجبروا عدداً من الليبيين على القتال في صفوف قواتها في إريتريا والحبشة والصومال، كما تقدر المصادر التاريخية أن إيطاليا جندت 25.738 مواطنا ليبياً الحرب العالمية الثانية ضد قوات الحلفاء.
مسار الاستعمار الإيطالي
كثّفت إيطاليا وخصوصاً في ظل النظام الفاشي لـ”لبينيتو موسوليني” جهودها لقمع الشعب الليبي، وتم استخدام سياسات القمع، بما في ذلك إنشاء معسكرات الاعتقال وتنفيذ حملات عقاب جماعية أشهرها في قرية العقيلة غرب بنغازي بنحو 280 كيلومتراً، حيث غدت معسكر اعتقال جماعي مات فيه ثلثا من دخلوا المعتقل منذ إنشائه 1928 وحتى 1931.
ووفق بعض الاحصائيات فإن عدد المعتقلين بلغ نصف مليون شخص قتل منهم 130 ألفاً على الأقل، في حين جرى توثيق أربعة مخيمات اعتقال رئيسية هي: العقيلة، ومرسى البريقة، وسيد أحمد المغرون في المجرن، وسلوق.
بقيت آثار الاستعمار الإيطالي على ليبيا لعقود، ولم ترسم فقط ذاكرة المجتمع بل أيضا خطت تلوينات السياسة سواء في شكل ليبيا الحالي أو حتى في أشكال التوزع السياسي والقبلي على طول البلاد، فتخلي إيطاليا عن سيطرتها لم يكن مجرد انسحاب فقط لأنه في النهاية كرّس علاقة يمكن ملاحظتها حتى اليوم وخصوصاً في سياسة ليبيا لبناء دولتها طوال العقود الماضية سواء في المرحلة الملكية أو خلال فترة “الجماهيرية الليبية”، أو حتى في مرحلة الاضطراب الحالية.
بقلم مازن بلال
ليبيون يطلقون حملة “عصيان مدني” رفضاً للصراعات السياسية والتدهور الأمني