النزاع القانوني الذي تشهده ليبيا حول إنشاء محكمة دستورية جديدة في بنغازي، يعكس عمق التناقض في رؤية الحياة العام الليبية بين الأطراف المتصارعة التي تنتشر خلافاتها باتجاه كافة المؤسسات.
مهما كانت أشكال التوافقات المرحلية في ليبيا فإنها تبقى عند حدود نموذجين سياسيين ما بين الشرق والغرب، ويلقي النزاع بشأن المحكمة الدستورية الضوء على مسألة لا ترتبط فقط في السيطرة على السلطة القضائية فحسب، إنما يكشف أيضاً رؤيتين مرتبطتين بقضايا تتعلق بسيادة القانون، وفصل السلطات، واستقرار النظام السياسي الهش في ليبيا.
المنظور التشريعي: مبررات مجلس النواب
يدافع مجلس النواب عن إنشاء المحكمة الدستورية في بنغازي كخطوة ضرورية لمعالجة التحديات القضائية التي تواجه البلاد منذ فترة طويلة.
والمبرر الأساسي للسلطة التشريعية هو عجز الغرفة الدستورية في المحكمة العليا منذ عام 2014، حيث يعتبر مجلس النواب أن المحكمة الجديدة ستخفف من تراكم المسائل العالقة داخل “الغرفة الدستورية”، وتضمن عملية قضائية أكثر فعالية، معتبراًأن إنشاء هذه المحكمة هو ضمن حقه الدستوري كهيئة تشريعية منتخبة في ليبيا.
وأوضح بيان مجلس النواب بهذا الخصوص أن الحكم السابق للمحكمة العليا الذي أبطل قانون إنشاء المحكمة الدستورية الجديدة لميكن واقعياً، وجاء سابقاًلأوانه، وصدر الحكم قبل دخول القانون الحالي حيز النفاذ.
وجاء اتهام مجلس النواب للمجلس الرئاسي بالفشل في الوفاء بأدواره بموجب الاتفاق السياسي، ليوضح أن التوافقات المرحلية الليبية لا يمكنها أن ترمم الفجوة بين الطرفين المتنازعين.
وأن مجلس النواب الذي حمل المجلس الرئاسي مسؤولية الفشل في مهمة المصالحة الوطنية، يريد تحرير القرارات التشريعية من سلطة هذا المجلس وتحريرها من تدخلات السلطتين التنفيذية أو القضائية، ومسألة إنشاء المحكمة الدستورية هي جزء من آلية فصل السلطات كما يراها مجلس النواب.
وتثير وجهة نظر مجلس النواب مخاوف بشأن كفاءة القضاء وحاجته لإصلاح عميق، فالغرفة الدستورية كانت معطلة لعدة سنوات، وهذا الأمر يعود بالدرجة الأولى لهيمنة سياسية واضحة تمنعها من التحرك ضد قضايا ربما تطال جهات سياسية في السلطة التنفيذية.
وكما أن هناك حجة قوية لاتخاذ خطوات لضمان إمكانية حل النزاعات الدستورية على الفور، ويعتبر مجلس النواب أنه يتصرف في حدود سلطاته التشريعية لإنشاء محكمة متخصصة من شأنها أن تعالج هذه التحديات القانونية، وهو يرفض الاتهامات بالتعدي على استقلال القضاء لأنه يقوم فقط بإصدار تشريع يسهل من عمل السلطة القضائية.
رؤية المحكمة العليا
بالنسبة للمحكمة العليا وغرفها الدستورية فهي أدانت إنشاء المحكمة الدستورية واعتبرتها انتهاكاً لاستقلال القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات، ورأت فيها تقويضاً لسلطتها وانتهاكاً للإطار الدستوري الذي تم إنشاؤه منذ استقلال ليبيا في عام 1951.
والمحكمة العليا وفق هذا التصور لم تنشأ بموجب قانون تشريعي فحسب، بل لها جذورها في الشرعية الدستورية، ما يجعل أي محاولة لتقليص دورها هجوماً مباشراً على سيادة القانون.
وأن الحجة الرئيسية للقضاء هي أن قرار مجلس النواب بإنشاء محكمة جديدة لا يدعمه أي حكم في الإطار الدستوري القائم، وينظر إلى هذه الخطوة باعتبارها محاولة متعمدة من قبل الهيئة التشريعية لتوسيع نفوذها، وبالتالي تعطيل توازن القوى.
وتؤكد المحكمة العليا أن عدم الاعتراف بأحكامها من قبل الهيئة التشريعية يشكل سابقة خطيرة تهدد نزاهة النظام القانوني، وتضعف الثقة العامة في المؤسسات القضائية.
وتقدم السلطات القضائية حجة حول مخاطر تجاوز التشريع، فمبدأ استقلال القضاء يشكل جوهر سيادة القانون، ويضمن أن القضاء يضبط عمل السلطات التشريعية والتنفيذية، وهي تؤكد حقها في الإشراف على القوانين التي تتعارض مع المبادئ الدستورية وإبطالها.
وتضع المحكمة العليا نفسها كوصي على نزاهة القانون في ليبيا، وقلقها من المحكمة الجديدة هي في أن تصبح أداة للتأثير السياسي إذا خضعت لسيطرة مجلس النواب.
الصراع على السلطة والسيطرة
إن المناقشة حول المحكمة الدستورية ليست مجرد نزاع قانوني؛ بل مظهر من أشكال الصراع الأوسع على السلطة في ليبيا.
وأن السلطتان التشريعية والقضائية لا تتنافسان على الصلاحية القانونية إنما على الهيمنة في المشهد السياسي، حيث تشكل الانقسامات وصراعات الفصائل المتنافسة تقويضاً للجهود الرامية إلى إنشاء بنية دولة موحدة.
ويشكل أحد المخاوف الرئيسية التي أثارتها المحكمة العليا هو احتمال أن تصبح امتداداً لنفوذ مجلس النواب، فإنشاء المحكمة في بنغازي الخاضعة لسيطرة مجلس النواب هو ما يثير مخاوف المحكمة العليا.
وما يحدث عملياً هو مناورة سياسية وليست خوفاً من اختراق الدستور أو محاولة للمساس بمبدأ فصل السلطات، فالواضح أن مجلس النواب محبط من عدم كفاءة النظام القضائي، والصراع المستمر بشأن المحكمة الدستورية يوضح الحاجة العميقة إلى إصلاحات قانونية ودستورية شاملة في ليبيا للتغلب على هذا المأزق، فالحوار بين السلطات التشريعية والقضائية أمر بالغ الأهمية في هذا الصدد.
وإن النزاع حول إنشاء المحكمة الدستورية في بنغازي يوضح درجة تعقيدات الحكم في ليبيا، فنوايا مجلس النواب لإصلاح القضاء ناتجة عن مخاوف عملية بشأن عدم كفاءة القضاء، ونهجه الذي يبدو مخاطرة في مسألة استقلال القضاء ينتهي عملياً عند حدود صلاحية المحكمة المقترح إنشاؤها، ودرجة تأثرها بالوضع السياسي القائم.
ويبدأ الحوار الحقيقي حول هذا الموضوع من المصالحة الوطنية بالدرجة الأولى، وبوضع كافة الخلافات ضمن التنافس السياسي بين الأطراف وليس عبر التنازع الذي يحدث اليوم، فالبنية السياسية الهشة القائمة حالياً هي التي تدفع لمزيد من الصراعات والأزمات في ليبيا.
بقلم نضال الخضري
مصرف ليبيا المركزي يكشف عن إيراداته خلال تسعة أشهر