يشهد المغرب منذ منتصف سبتمبر 2025 حراكاً غير مسبوق قادته حركة شبابية أطلقت على نفسها اسم “جيل زد 212″، خرجت من رحم العالم الرقمي لتفجر نقاشاً حول العدالة الاجتماعية وإصلاح منظومتي الصحة والتعليم، وهما قطاعان يختصران أزمة التنمية في المملكة.
تطورت الأحداث المرافقة للاحتجاجات من صدور أحكام قضائية ثقيلة بحق محتجين، مروراً بخطاب الملك محمد السادس أمام البرلمان، وصولاً إلى دعوات الحركة لاستئناف التظاهر، وتتشكل اليوم ملامح مرحلة دقيقة في علاقة الدولة بالمجتمع، عنوانها الأبرز: إلى أين يتجه المغرب بين مطلب الإصلاح وهاجس الاستقرار؟
ولادة حركة جيل زد.. من المأساة إلى السياسة
لم يكن ظهور الحركة وليد الصدفة، بل جاء على خلفية مأساة إنسانية تمثلت في وفاة ثماني نساء حوامل داخل مستشفى عمومي بمدينة أكادير، وكشفت الحادثة حجم التدهور في الخدمات الصحية العمومية، فجاء تأسيس الحركة استجابة لحالة استياء مجتمعي متصاعدة أعقبت تلك الحوادث التي كشفت هشاشة المنظومة الصحية، وانطلقت عبر منصة “ديسكورد“، لتتحول خلال أسابيع إلى شبكة احتجاجية لامركزية تضم آلاف الشباب من مختلف المدن المغربية.
رفع هؤلاء شعارات تتجاوز المطالب الفئوية، وتدعو إلى إصلاح جذري في التعليم والصحة ومحاربة الفساد، ثم تطور خطابهم إلى مطالب سياسية مباشرة كإقالة الحكومة برئاسة عزيز أخنوش، بل ومقاطعة شركاته التي اتهموها بـ”تجسيد زواج المال بالسلطة”، وهذه النقلة من الاجتماعي إلى السياسي كشفت نضجاً متسارعاً في وعي الجيل الجديد، لكنه أيضاً أثار مخاوف السلطة من انزلاق الحراك إلى مسار مفتوح على المجهول.

بين الشارع والأمن.. لحظة الصدام
في الأسابيع الأولى، تعاملت السلطات المغربية بحذر مع الحركة، فمنعت مظاهراتها الأولى بدعوى غياب الترخيص، واعتقلت مئات المحتجين قبل أن تُفرج عن معظمهم لاحقاً، غير أن الأيام التالية شهدت انفلاتاً في مدن الجنوب، خصوصاً في ضواحي أكادير، حيث تحولت بعض الاحتجاجات إلى مواجهات دامية أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة المئات من المتظاهرين ورجال الأمن.
السلطات رأت في هذه الأحداث محاولة لزعزعة الأمن العام، فيما أكدت الحركة تمسكها بالسلمية ونفت علاقتها بأعمال التخريب، معتبرة أن القوى الأمنية لم تُحسن إدارة الموقف، وفي ظل هذا التوتر، صدرت أحكام قضائية قاسية بحق 17 متهماً تراوحت بين 3 و15 سنة سجناً نافذاً، وسط انتقادات حقوقية اعتبرت أن المقاربة الأمنية تعمق الفجوة بين الدولة وشبابها.
وتتحدث منظمة “هيومن رايتس ووتش” عن أكثر من 270 شخصاً، بينهم 39 قاصراً، ما زالوا رهن الاعتقال، مطالبة الرباط بالتحقيق في “الاستخدام المفرط للقوة”، فيما اعتبرت منظمات مغربية أن هذه الأحكام تهدد بتحويل الحراك إلى قضية جيل بأكمله بدل أن تكون حادثة معزولة.

خطاب الملك.. بين الإصلاح والتوازنات السياسية
بعد أسبوع من الاحتجاجات، جاء خطاب الملك محمد السادس أمام البرلمان ليشكل محطة مفصلية، فدعا العاهل المغربي إلى “تسريع وتيرة التنمية وتوفير فرص الشغل والنهوض بالصحة والتعليم“، محذراً من أي تهاون في كفاءة الاستثمار العمومي، ومؤكداً أن التنمية الحقيقية تقاس بما يُنجز على الأرض لا بما يُعلن من خطط.
ورغم أن الخطاب تجنب الإشارة المباشرة إلى حركة جيل زد، فإن توقيته ومضامينه عكست إدراك المؤسسة الملكية لحجم التحدي الاجتماعي، وسعيها إلى تهدئة الشارع دون تقديم تنازلات سياسية تمس توازن النظام.
يكشف مضمون الخطاب ثلاث رسائل أساسية:
- الاعتراف الضمني بالأزمة عبر الدعوة إلى إصلاحات عاجلة في القطاعات الحيوية.
- تثبيت الثقة في الحكومة الحالية رغم تصاعد الدعوات لإقالتها، ما يعني أن الملك لا يرى في أخنوش سبباً للأزمة بقدر ما يحمّل الجميع مسؤولية التنفيذ.
- رسم حدود الاحتجاج المشروع بالإشارة إلى أن التنمية “تتجاوز الزمن الحكومي والبرلماني”، ما يعني أن الدولة ترى نفسها صاحبة المشروع الاستراتيجي للإصلاح، لا الشارع.

الأحكام القضائية ورسائل الدولة الصلبة
مع صدور أحكام أكادير والقليعة، بدا أن السلطة تريد توجيه رسالة مزدوجة، أولها أن الأمن خط أحمر، والثانية أن التعبير السلمي مقبول ضمن الحدود القانونية، والأحكام التي بلغ مجموعها 162 سنة سجناً نافذاً، أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والسياسية، حيث رآها البعض تطبيقاً للقانون وردعاً لأعمال العنف، فيما وصفها آخرون بأنها مبالغ فيها وتكشف غياب رؤية لمعالجة جذور الغضب الاجتماعي.
القضاء المغربي، في المقابل، استند إلى فصول من القانون الجنائي تتراوح عقوباتها بين السجن المؤبد والإعدام في حالات إضرام النار أو الاعتداء على منشآت الدولة، لكن في المقابل، يرى خبراء أن تغليب المقاربة الزجرية دون مصالحة مجتمعية يدفع الحركة إلى التشدد بدل التراجع.
استجابة حكومية متأخرة
في خضم الأزمة، أعلنت وزيرة المالية نادية فتاح العلوي أن الحكومة ستُعدّل موازنة 2026 لتخصيص موارد إضافية للتعليم والصحة، واعتبرت احتجاجات الشباب “جرس إنذار” يتطلب إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، مبينة أن الحكومة ستعيد توزيع الإنفاق لتحقيق مكاسب سريعة وملموسة، خصوصاً في المستشفيات والمدارس.
هذا الإعلان يمثل اعترافاً ضمنياً بأن الاستثمار في البنى التحتية الكبرى والملاعب تحضيرا ًلكأس العالم 2030 لم يكن كافياً لإقناع المواطنين بجدوى النمو الاقتصادي، فالشباب المغربي لا يطلب مشاريع رمزية، بل حقه في كرامة يومية تتجسد في تعليم جيد وخدمات صحية لائقة وفرص عمل حقيقية.

جيل زد يعود إلى الشارع
بعد تعليق مؤقت لاحتجاجاته، أعلنت الحركة استئناف مظاهراتها في مختلف المدن المغربية، داعية إلى اعتصامات سلمية للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة الفاسدين، ورغم تأكيدها على نبذ العنف، فإن عودة التظاهر بعد صدور الأحكام القضائية ربما يعيد التوتر إلى الشارع، خاصة في ظل غياب مبادرة سياسية لفتح حوار جدي بين الحكومة والشباب.
وتشير مصادر داخل الحركة إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تنظيماً أكبر وتنسيقاً أوثق بين اللجان المحلية، في محاولة لتفادي الاختراقات الأمنية أو الانفلات السابق، كما تتحدث بياناتها الأخيرة عن “جيل واعٍ لا يطلب إسقاط النظام بل تجديد العقد الاجتماعي”.
قراءة في المآلات
يقف المغرب اليوم على مفترق طرق بين خيارين:
- الأول احتواء إصلاحي تقوده المؤسسة الملكية بإعادة توزيع الثروة وتحسين الخدمات العمومية وفتح قنوات الحوار مع الجيل الجديد.
- الثاني مواجهة باردة تُغلَّب فيه المقاربة الأمنية وتُترك الأزمة الاجتماعية دون حلول جذرية، بما يعمق فجوة الثقة بين الدولة والمواطن.
من الواضح أن المؤسسة الملكية تحاول الحفاظ على توازن دقيق بين الشرعية السياسية والاستقرار الاجتماعي، فهي تدرك أن جيل زد ليس حركة تقليدية، بل تعبير عن تحولات اجتماعية عميقة في وعي الشباب المغربي، الذين يعيشون في فضاء رقمي عابر للمؤسسات، ولا يعترفون بالوساطة الحزبية التقليدية ولا ينتظرون الإصلاح عبر قنوات بيروقراطية.

من الخبز إلى الكرامة
ما تشهده المملكة المغربية اليوم ليس مجرد احتجاجات مطلبية، بل تحول اجتماعي ثقافي يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، فجيل زد ليس عدواً للدولة، بل مرآتها الصادقة، فهو جيل متعلم ومتصل بالعالم، ويرفض الخطاب الرسمي القديم، ويطالب بفعالية الحكم لا رمزيته.
خطاب الملك حمل وعوداً إصلاحية، لكن الشارع يريد أفعالاً ملموسة لا شعارات، والأحكام القضائية حملت رسالة هيبة الدولة، لكن المطلوب اليوم هو رسالة ثقة ومصالحة، فالمغرب في 2025 أمام اختبار توازن نادر في الحافظ على استقراره دون أن يخسر شبابه، وفي تحقيق العدالة الاجتماعية دون أن يُربك توازناته السياسية، ونتائج هذا الاختبار لن تأتي من المحاكم أو الشوارع وحدها، بل من قدرة النظام على تجديد تعاقده مع جيل لا يطلب أكثر من وطن يسمع صوته، ويحترم كرامته.
بقلم نضال الخضري
المغرب يوقف عشرات المهاجرين يوميا في محاولات العبور نحو إسبانيا
