05 ديسمبر 2025

تتأرجح ليبيا اليوم بين مسارين متناقضين، فالشرق يسعى لتقديم نفسه كقطب للاستقرار والانفتاح على العالم، بينما يغرق الغرب تحت ثقل الفوضى الإعلامية وخطابات التحريض.

 

تجلّى هذا التباين بوضوح في الأيام الأخيرة، حين استقبل المشير خليفة حفتر المبعوثة الأممية هانا تيتيه في بنغازي لمناقشة خارطة طريق سياسية، بينما كانت قناة الشيخ الصادق الغرياني تبث من إسطنبول خطاباً مشحوناً بالتصعيد، هذه المفارقة تلخّص جوهر المأزق الليبي حيث الدولة ممزقة بين لغة التهدئة وبناء المؤسسات من جهة، ولغة التحريض والتجييش من جهة أخرى.

الغرياني وقناة الضوضاء

منذ سقوط نظام القذافي، برز الشيخ الصادق الغرياني، المفتي المعزول من قبل مجلس النواب، كأحد أبرز الأصوات الدينية المثيرة للجدل، وعبر منابر إعلامية تبث من تركيا، وعلى رأسها قناة “التناصح”، واصل الغرياني إطلاق مواقف متشددة تستهدف الشرق الليبي وقائده خليفة حفتر، رافضا أي مسار سياسي لا يخضع لتصوراته، وما يميز خطاب الغرياني هو المزج بين اللغة الدينية الحادة والتوظيف السياسي المباشر، ما يجعل من قناته الإعلامية أداة تحريضية أكثر منها منبرا للحوار الوطني.

في السياق ذاته، صعّد محمد مرغم، عضو المؤتمر الوطني العام السابق وقيادي في جماعة الإخوان المسلمين، خطابه عبر قناة التناصح، داعيا إلى شن “حرب تحرير جديدة” ضد القوات المسلحة بقيادة المشير حفتر، على غرار ما حدث عام 2011 ضد نظام القذافي.

واعتبر مرغم أن بقاء حفتر في المشهد يمثل عرقلة واضحة لأي عملية سياسية، متهما المجتمع الدولي بدعم ما وصفه بـ”الاستبداد، وشدد على أن أي طرف يتعامل مع حفتر كفاعل سياسي يعد في نظره “خائنا للثورة أو غبيا”، مؤكدا أن الحل لا يمر عبر التوافق معه بل عبر إقصائه بالقوة أو بقرار دولي.

هذا الخطاب يضيف بعدا جديدا إلى مشهد التحريض في الغرب الليبي، حيث لا يقتصر الأمر على الغرياني بل يمتد إلى شخصيات سياسية وإخوانية تتبنى ذات النهج التصعيدي، وهكذا تتسع دائرة الضوضاء، في مقابل سعي الشرق لترسيخ صورة الاستقرار.

حفتر وإستراتيجية الاستقرار

على الضفة الأخرى، يحاول خليفة حفتر منذ سنوات تثبيت واقع مختلف، ليس فقط عبر السيطرة العسكرية، بل أيضا عبر الانفتاح على المسار السياسي والدبلوماسي، ولقاؤه الأخير مع المبعوثة الأممية في بنغازي يمثل حلقة جديدة في هذا المسعى، حيث ناقش الطرفان خارطة الطريق نحو الانتخابات وتشكيل حكومة موحدة، إضافة إلى وقف التوترات الأمنية في طرابلس.

هذا اللقاء لم يكن مجرد بروتوكول سياسي، بل جاء في توقيت حساس يتصاعد فيه العنف في الغرب بين الفصائل المسلحة، بينما يظهر الشرق كقطب أكثر استقرارا، وبينما تغذي قناة الغرياني وخطابات مرغم أجواء المواجهة، يحاول حفتر طرح معادلة سياسية عبر البوابة الأممية كفاعل مسؤول قادر على الانخراط في مشروع الدولة الحديثة.

الاستقرار مقابل الفوضى

المفارقة الأبرز في ليبيا اليوم تظهر في هذا التباين بين شرق يسعى للتهدئة وغرب غارق في الصراعات، والاستقرار في الشرق ليس مجرد اعتراف أممي، بل هو نتاج خطاب سياسي متماسك يسعى إلى بناء مؤسسات قادرة على مواجهة التحديات الأمنية والسياسية، أما الفوضى السياسية فهي انعكاس لعجز بعض التيارات في الغرب عن الانتقال من منطق الغلبة الفصائلية إلى منطق الدولة.

استقبال حفتر للمبعوثة الأممية يعكس إدراكا متزايدا لدى الشرق بأن الحل العسكري وحده غير كاف، وأن الانفتاح السياسي والدبلوماسي ضروري لتكريس توازن في المعادلة الليبية، في المقابل، يكشف إصرار الغرياني ومرغم على خطاب التحريض عن أزمة عميقة في الرؤية، حيث يتم استدعاء الدين والتاريخ الثوري لتبرير مواقف سياسية متأزمة.

طرابلس والتوترات المستمرة

بينما ينفتح الشرق على الأمم المتحدة، لا تزال طرابلس تعيش على وقع اشتباكات متكررة بين الميليشيات المسلحة هذه المعارك، التي تتجدد بين الحين والآخر، تعكس هشاشة الوضع الأمني في الغرب، حيث لم تفلح الحكومات المتعاقبة في فرض سلطة مركزية أو تفكيك البنية الميليشياوية.

التصعيد الأخير في طرابلس مثّل إنذارا جديدا للبعثة الأممية التي عبّرت عن قلقها البالغ، داعية إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، غير أن هذه الدعوات غالبا ما تصطدم بواقع الميدان الذي تحكمه الولاءات الفصائلية والتوازنات الهشة، ما يجعل أي حل سياسي مرهونا بمدى قدرة المجموعات المسلحة على الانضباط.

دلالات التزامن

التزامن بين خطابات التحريض التي يطلقها الغرياني ومرغم وبين لقاء حفتر مع المبعوثة الأممية ليس مجرد مصادفة، بل يعكس انقساما استراتيجيا عميقا؛فالغرب ينتج ضجيجا إعلاميا يغذي الاستقطاب، بينما يحاول الشرق قدرة على التهدئة وإعادة صياغة الدولة،وهذا التناقض يطرح سؤالا محوريا، فأي المسارين سيحظى بالدعم المحلي والدولي؟

المجتمع الدولي يجد نفسه مضطرا للتعامل مع كلا الطرفين، غير أن المؤشرات تميل إلى أن الدعم سيُمنح لمن يثبت قدرته على ضبط الأمن والانخراط في العملية السياسية، وهنا يبرز الشرق، بقيادة حفتر، كخيار أكثر واقعية مقارنة بفوضى الغرب التي تكرّس الانقسام ولا تقدم حلولا.

لكن الدعم الدولي وحده لا يكفي، فالتحدي الحقيقي الذي يضعه حفتر أمام المجتمع الدولي يكمن في بناء توافق وطني يتجاوز معادلة شرق/غرب، ويؤسس لدولة مدنية جامعة، حيث يبقى الانفتاح على المسار الأممي فرصة لترسيخ واقع سياسي جديد.

نحو أي أفق؟

التحليل العميق للمشهد الليبي يقود إلى خلاصة مفادها أن البلاد تعيش لحظة مفصلية بين خيارين؛ الأول هو الاستقرار الذي يسعى الشرق إلى تكريسه عبر الانفتاح والتهدئة، وخيار الفوضى الذي يصر بعض الأصوات في الغرب على تغذيته عبر حملات التحريض، عاجلاً أم آجلاً، سيضطر المجتمع الدولي إلى ترجيح كفة الخيار الأول، ليس فقط لأنه أكثر انسجاما مع متطلبات الأمن الإقليمي والدولي، بل لأنه الخيار الوحيد القابل للتحقق على الأرض.

وبينما يواصل الغرياني ومرغم بث خطاباتهم المحرّضة عبر منابر خارجية، يخطو حفتر خطوات محسوبة نحو تثبيت الاستقرار والانفتاح السياسي،وهذا التباين بين التحريض ومسعى التهدئة يختصر مأزق ليبيا الراهن، فالبلد ممزق بين أصوات الماضي التي تعيد إنتاج الفوضى، وأصوات الحاضر التي تحاول صياغة مستقبل أكثر استقرارا.

بقلم: مازن بلال

 

 

إلغاء “ضريبة الجهاد” يثير الجدل في ليبيا

اقرأ المزيد