أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في السادس من أكتوبر 2025، حكمها بإدانة علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف باسم علي كوشيب، أحد قادة ميليشيات الجنجويد، بارتكاب 30 جريمة حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور بين عامي 2003 و2004.
هذا الحكمٌ الذي جاء بعد عقدين من الزمن، ويبدو كأنه آتٍ من زمن آخرٍ ما زال يؤمن بأن العدالة يمكن أن تنتصر على القوة، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه اليومأيّ عدالة تلك التي تأتي بعد عشرين عاما،ً بينما تتكرر الجرائم نفسها في المكان ذاته؟
أول إدانة… بعد عشرين عاما من الإبادة
الحكم ضد كوشيب هو الأول في ملف دارفور منذ أن أحاله مجلس الأمن إلى المحكمة في عام 2005، حيث أثبتت المحكمة، بالأدلة والشهادات، أن المتهم قاد هجمات منظمة ضد قرى الفور والمساليت ومجتمعات غير عربية، في إطار خطة حكومية لإخماد التمرد بالقوة تشمل القتل الجماعي، والاغتصاب، والتعذيب، وحرق القرى، وتدمير الممتلكات.

ومع أن القرار اعتُبر في الأوساط الحقوقية “نصراً رمزياً للعدالة الدولية”، إلا أنه يعكس فشل المحكمة في معالجة جوهر المأساة السودانية التي لم تبدأ بكوشيب ولن تنتهي عنده، فمنذ صدور مذكرات التوقيف بحق الرئيس المعزول عمر البشير ووزيري الدفاع والداخلية عبد الرحيم محمد حسين وأحمد هارون، لم تتمكّن المحكمة من جلب أيّ منهم إلى لاهاي.
وبينما يظل هؤلاء أحراراً داخل السودان أو تحت حماية أطراف نافذة، تغرق دارفور مجدداً في أتون حرب جديدة، أكثر وحشية ولا تخضع لأي مساءلة.
لم يكن العنف في دارفور معزولاً عن بنية السودان السياسية المعقدة. فبعد عقدين من الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، خرجت البلاد من اتفاقية نيفاشا عام 2005 بصفقة هشة، تُقايض بين بقاء نظام البشير في السلطة من جهة، والقبول بانفصال الجنوب من جهة أخرى. كان الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا، يرى في هذه الصفقة خطوة نحو “تجزئة المشكلة” بدلاً من حلّها، فجنوب السودان بموارده النفطية الهائلة كان أكثر إغراءً لأن يُفصل عن منظومة الحكم في الخرطوم التي تُعدّ بالنسبة للغرب نظاماً إسلامياً متمردًا على هندسة ما بعد الحرب الباردة.
دارفور من جديد: الجنجويد بثوب الدعم السريع
وُلدت ميليشيات الجنجويد من رحم السياسة الأمنية لنظام البشير، وكان الهدف المعلن “حماية الدولة من التمرد، لكن الواقع كشف عن استخدامٍ منظم للعنف العرقي كسلاحٍ سياسي، وتطورت هذه الميليشيات لاحقاً لتصبح نواة قوات “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، التي تخوض اليوم حرباً مفتوحة ضد الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان.
من المفارقة أن نفس البنية التي ارتكبت جرائم دارفور في 2003، الميليشيا المدعومة حكومياً والمحمية سياسياً، هي اليوم أحد طرفي الصراع الرئيسيين في السودان، بينما يكتفي المجتمع الدولي بإعادة تدوير بيانات القلق.
إنّ مشاهد القصف على مستشفيات الفاشر في أكتوبر 2025، التي أودت بحياة عشرات المدنيين والأطباء، ليست سوى نسخة حديثة من المأساة القديمة نفسها، لكن بلا محاسبة. وها هي دارفور، التي وُصفت قبل عقدين بأنها “أسوأ أزمة إنسانية في العالم”، تعود لتحتل العنوان ذاته.
المحكمة الجنائية: عدالة بلا أذرع تنفيذ
المحكمة الجنائية الدولية، التي تأسست عام 2002 كمؤسسة دائمة لمحاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى، تعاني من عجز بنيوي مزمن، حيث لا تملك قوة تنفيذية، وتعتمد على تعاون الدول، وفي الحالة السودانية، هذا التعاون معدوم.

السلطات في بورتسودان، التي تمثل اليوم بقايا الدولة المركزية، ترفض تسليم أي من المطلوبين، وتتحجج بالظروف الأمنية والسيادية، أما قوات الدعم السريع، المتهمة اليوم بارتكاب جرائم مشابهة لتلك التي أُدين بها كوشيب، فليست دولة يمكن إلزامها بالقانون الدولي، وتبدو المحكمة وكأنها كيان رمزي أكثر من كونها أداة فعالة للعدالة، فهي تُدين عندما ينهار أحد الأطراف، وتسكت حين يكون الجناة في السلطة أو محميين بها.
إنّ التركيز على محاكمة رموز النظام السابق، دون مساءلة المسؤولين عن الجرائم المستمرة اليوم، يجعل المحكمة تبدو وكأنها تلاحق أشباح الماضي وتتجاهل دماء الحاضر.
كوشيب: كبش فداء أم شاهد على دولة الإفلات من العقاب؟
في دفاعه أمام المحكمة، قال محامو كوشيب إن موكلهم “كبش فداء” قدّمته الحكومة للتغطية على المتهمين الحقيقيين، ورغم أن الدفاع لم ينفِ وقوع الجرائم، فإنه أصرّ على أن كوشيب لم يكن سوى أداة في يد قادته في الجيش والأمن.
هذه الرواية، وإن بدت محاولة تبريرية، إلا أنها تكشف حقيقة أعمق؛ فالنظام الذي أنتج الجنجويد ما زال قائماً بأشكال جديدة، من هياكل الدولة إلى الميليشيات، ومن ثقافة الإفلات إلى منطق الحرب كوسيلة للحكم.
جاء تسليم كوشيب نفسه للمحكمة عام 2020، بعد انهيار نظام البشير وتخلّي حلفائه عنه، كخيار اضطراري لإنقاذ حياته، لا كخطوة نحو العدالة، فكان يدرك أن العدالة الدولية أقل قسوة من “عدالة” رفاق السلاح.
البشير والبرهان وحميدتي: الحلقة المفقودة في العدالة الدولية
من المثير أن المحكمة، في بياناتها الأخيرة، تواصل المطالبة بتسليم البشير وهارون وحسين، لكنها تتجنب الإشارة إلى عبد الفتاح البرهان أو حميدتي، رغم أن كليهما يُشتبه في تورطه أو علمه المباشر بالجرائم التي وقعت في دارفور خلال العقدين الماضيين.

كان البرهان في عام 2003، حسب شهادات عديدة، يشغل موقعاً عسكرياً في دارفور، ويشرف على تنسيق عمليات الجيش والجنجويد، أما حميدتي، فكان أحد قادة تلك الميليشيات التي تحوّلت لاحقاً إلى قوات الدعم السريع، والرجلان يتنازعان السلطة اليوم على أنقاض دولة مدمّرة، بينما المحكمة تكتفي بالحديث عن تحقيقات جديدة”.
هل يخشى المدعي العام كريم خان أن يفتح ملفاًيحرجه سياسياً أمام الدول الداعمة للطرفين؟ أم أن المحكمة ببساطة تفتقر إلى الإرادة والغطاء السياسي لمساءلة من لا يزال في موقع القوة؟
بين القانون والسياسة: فشل العدالة الانتقائية
تفتخر المحكمة بأنها “أداة القانون الدولي ضد جرائم القوة”، لكن مسارها في السودان يكشف العكس، فقرار مجلس الأمن 1593 في عام 2005، أحال ملف دارفور إلى المحكمة، وكان سابقة في التاريخ القانوني الدولي، لكنه تحوّل إلى ورقة سياسية في يد القوى الكبرى.

استخدمت بعض الدول ملف دارفور كأداة ضغط على نظام البشير، ثم تخلّت عنه حين تغيّرت المعادلات الإقليمية،وبينما تتفكك الدولة السودانية اليوم بين الجيش والدعم السريع ومليشيات قبلية، لا تجد المحكمة ما تستند إليه سوى البيانات الختامية”.
أصبحت المحكمة الجنائية الدولية مؤسسة عدالة منزوعة القدرة في عالمٍ تحكمه اعتبارات السياسة والمصالح، فهي لا تحاكم إلا من يُسمح بمحاكمته، ولا تتحرك إلا حيث لا يوجد نفوذ يحمي الجناة.
دارفور اليوم: الجريمة مستمرة بلا شهود
في الفاشر، عاصمة شمال دارفور، يعيش أكثر من 400 ألف إنسان تحت الحصار منذ عام ونصف، والمستشفيات مدمّرة، والأدوية منعدمة، والناس يلجؤون إلى استخدام الصبّار والثوم لعلاج الجروح، وهناك أكثر من مليون شخص فرّوا من المدينة، ونحو 25 مليون سوداني يعانون الجوع الحاد وفق الأمم المتحدة.
إنها ليست مجرّد أزمة إنسانية؛ بل جريمة متواصلة أمام أعين العالم، رغم ذلك فإن صوت المدعي العام للمحكمة الجنائية لا يُسمع إلا من خلف جدران لاهاي، وهو يتحدث عن “تحقيقات عاجلة” و”أدلة موثوقة”، لكن ما قيمة الأدلة حين يموت الشهود كل يوم؟
المحكمة كمرآة للفشل الدولي
قضية دارفور لا تخص السودان وحده؛ هي مرآة لعجز النظام الدولي عن إنفاذ العدالة خارج إرادة القوى الكبرى، فالمحكمة الجنائية الدولية التي تجاهلت جرائم العراق واليمن وغزة، تكرّر في السودان ما فعلته في رواندا عبر إدانة رمزية متأخرة لجناة صغار، وصمت ثقيل أمام الفاعلين الكبار.
أصبح من المشروع الآن التساؤل عمّا إذا كانت المحكمة تُدار كأداة ضغط دبلوماسي لا كجهاز قضائي، فحين تُدين كوشيب وتغضّ الطرف عن حميدتي، وحين تذكّر البشير ولا تقترب من البرهان، فإنها ترسل رسالة واضحة بأن العدالة ممكنة فقط حين لا تُهدد أحدا.
نحو مفهوم جديد للعدالة في السودان
لا يمكن إنكار أن الحكم ضد كوشيب أحيا ذاكرة الضحايا، وشكل اعترافاً رسمياً متأخراًبأن الجرائم وقعت، وأن أرواح عشرات الآلاف لم تذهب سدى، غير أن العدالة الحقيقية لا تكتمل إلا حين يُفتح الباب لمساءلة كل من تلطخت أيديهم بالدماء، من أي معسكر كانوا.

فالسودان بحاجة إلى عدالة انتقالية وطنية شجاعة، تعيد بناء الثقة، وتكسر حلقة الإفلات من العقاب التي صارت قاعدة الحكم منذ عقود، لكن ذلك لن يحدث في ظل استمرار الحرب، وتنازع الشرعيات، وتفكك المؤسسات، فكما كانت دارفور في 2003 مسرحالحربٍ بالوكالة عن المركز، هي اليوم ساحة لتصفية الحسابات بين جنرالات الطموح والمال.
إنّ إدانة علي كوشيب لا تعني أن العدالة انتصرت؛ بل أن العدالة تأخرت، وأن السياسة ما زالت تتحكم في مصير الضحايا، فحين تُصبح العدالة رهينة الإرادة الدولية؛ تتحول من قيمة أخلاقية إلى أداة نفوذ، ومن منبر للحقيقة إلى مسرحٍ للرمزية.
بقلم: نضال الخضري
الإمارات تمنع دخول شحنات من النفط السوداني
