تواجه المحكمة الجنائية الدولية موجة تشكيك ورفض من قبل القوى الكبرى، وجاءت الانتقادات الأخيرة من ليبيا وروسيا لتضع التساؤلات حول هذه الهيئة الدولية وشرعيتها وفعالية قراراتها.
قدم ممثل ليبيا لدى الأمم المتحدة، طاهر السني، نقدا حادا للمحكمة الجنائية الدولية خلال إحاطة لمجلس الأمن، موضحا أنها كانت تعمل في “حلقة مفرغة” لمدة 13 عاما، حيث قدمت 28 إحاطة دون التوصل إلى نتائج ملموسة، وهذا الانتقاد لممثل ليبيا يسلط الضوء على قلق متزايد، حول قدرة المحكمة على تحقيق العدالة في ظل البيروقراطية التي تحكم عملها.
تعاملت الجنائية الدولية منذ عام 2011 مع عدة قضايا تتعلق بليبيا، وأحال مجلس الأمن الدولي الوضع في ليبيا إليها، ما منحها الولاية القضائية للتحقيق في الجرائم المرتكبة في البلاد، وأصدر سابقا مذكرات توقيف بحق ثلاثة مسؤولين ليبيين هم معمر القذافي وسيف الإسلام القذافي نجل معمر القذافي، وعبد الله السنوسي رئيس الاستخبارات الليبية، وتبعها سلسلة من المذكرات، وخلال شهر نوفمبر 2024، زار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، العاصمة الليبية طرابلس، حيث قدم إحاطة لمجلس الأمن الدولي حول تطورات الوضع في ليبيا، وأعلن نية المحكمة إصدار المزيد من أوامر القبض بحق المتورطين في الجرائم المرتكبة في ليبيا بين عامي 2014 و2020، خاصة فيما يتعلق بقضايا المقابر الجماعية والانتهاكات التي شهدتها البلاد خلال تلك الفترة.
الموقف الليبي من عمل الجنائية الدولية
عمليا فإن الاتجاهات السياسية العامة في ليبيا تتصاعد ضد عمل الجنائية الدولية، وهو ما عبر عنه ممثل ليبيا في الأمم المتحدة فالعديد من القضايا التي تحقق فيها هي اختصاص سيادي وليبيا قادرة على التعامل مع شؤونها القضائية بنفسها، حيث أشار “السني” إلى أن القضاء الليبي ملتزم بإجراء محاكمات عادلة لجميع المتهمين، مؤكداً أن الجرائم المرتكبة داخل ليبيا تندرج تحت اختصاصها السيادي، وفي الوقت الذي تعاونت ليبيا مع المحكمة الجنائية الدولية بموجب مبدأ التكامل، فإن هذا التعاون لا ينبغي أن يقوض القضاء الليبي، حيث اعتبر “السني أن النائب العام الليبي أحرز تقدما واضحا في التحقيق في الجرائم المعقدة.
تنظر ليبيا إلى المساءلة كوسيلة لتعزيز المصالحة الوطنية ومنع المزيد من التدخل الخارجي في عملياتها السياسية، فالمحكمة الجنائية الدولية فشلت في إغلاق القضايا المطروحة، والموقف الليبي يؤكد على معضلة أوسع تواجهها المحكمة الجنائية الدولية: وهي الموازنة بين التفويضات الدولية واحترام السيادة الوطنية، وباعتبار أن ليبيا غير موقعة على نظام روما الأساسي، فإن اعتمادها على قضائها يعكس رفضها للتجاوزات الدولية المزعومة.
روسيا.. اتهامات بالتحيز وعدم الفعالية
الاستياء الروسي من المحكمة الجنائية الدولية ينطلق من الاختلافات في طبيعة تفكير موسكو بالمسائل الدولية، وتوجهها بشكل معاكس للغرب فيمنح سيادة الدول بعدا رئيسيا للحفاظ على الاستقرار الدولي، والانتقادات الروسية الأخيرة للمدعي العام كريم خان، نقلت المخاوف الروسية من الأحكام غير المستقلة من جهة، إضافة لعدم فاعليتها حيث وصف ممثل روسيا تقارير خان بأنها “جوفاء إلى حد كبير” واتهمه بالانحراف عن تفويضات المجلس الأصلية.
وتتلخص الانتقادات الروسية للجنائية الدولية بجملة نقاط:
- العدالة الانتقائية: تتهم روسيا المحكمة الجنائية الدولية بالتسييس، وترى أنها تستهدف بشكل انتقائي الأفراد والدول بينما تتجاهل الآخرين، وهذا الانتقاد يتماشى مع الاتهامات الأوسع نطاقا بأن المحكمة الجنائية الدولية تركز بشكل أكبر على الدول الأضعف بينما تتجاهل الجرائم التي ارتكبتها الدول القوية أو حلفاؤها.
- تجاوز التفويضات: شككت روسيا أكثر من مرة في شرعية المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا، مشيرة إلى أن ليبيا ليست من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي، وترى موسكو أن تصرفات المحكمة الجنائية الدولية تتناقض مع توجيهات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
- التدخلات الجيوسياسية: تنظر موسكو إلى المحكمة الجنائية الدولية كأداة للتأثير الغربي، باستخدام الآليات القانونية لزعزعة استقرار الحكومات أو نزع الشرعية عنها، ويتعزز هذا الرأي من خلال تركيز المحكمة على القضايا التي تنطوي على دول غير غربية.
إن انتقادات روسيا تعكس خيبة أمل أوسع نطاقا في المؤسسات الدولية التي يُنظر إليها على أنها أدوات للهيمنة الغربية، ولهذا الأمر آثار تنسحب على الإطار الأوسع للقانون الدولي.
تحديات أمام المحكمة الجنائية الدولية
تطرح انتقادات ليبيا وروسيا قضايا أساسية تواجه المحكمة الجنائية الدولية، ابتداء من عدم الكفاءة إلى قضايا التحيز، وتتفاقم هذه التحديات بسبب الاتهامات الأخيرة ضد المدعي العام كريم خان الذي يقود التحقيقات في ليبيا، حيث يتهمه البعض بالتعاون مع بعض الفصائل الليبية بشكل يهدد بتقويض نزاهة تحقيقاته، وهذه الاتهامات إذا ثبتت صحتها ستؤدي إلى إلحاق المزيد من الضرر بمصداقية المحكمة، ويضاف إلى هذا الأمر الكثير من التشابك ضمن القضايا الدولية، فالمحكمة تعتمد أساسا على تعاون الدول، وفي ظل غياب آليات التنفيذ الخاصة بها، يؤدي هذا الاعتماد إلى عدم الامتثال، وخاصة من جانب الدول غير الموقعة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين.
أحد أهم التحديات تركيز المحكمة على القضايا الإفريقية والشرق الأوسط وهو ما يصمها بالتحيز لأنها تستهدف الدول الأضعف، وهذا الأمر يدفع إلى طرح مسألة شرعيتها في ليبيا بالدرجة الأولى لأن عملها يحمل تداعيات تتمثل في الأمور التالية:
- العدالة الانتقالية: يعكس إصرار ليبيا على المحاكمات السيادية رغبة في استعادة الوكالة في العدالة الانتقالية.
- المعايير الدولية والسيادة: تسلط انتقادات ليبيا وروسيا الضوء على التوتر بين المعايير القانونية الدولية والسيادة الوطنية، ويثير هذا التوتر تساؤلات حول قدرة المحكمة الجنائية الدولية على العمل بشكل فعال في الدول غير الموقعة.
- مستقبل المحكمة الجنائية الدولية: لكي تظل المحكمة الجنائية الدولية ذات مصداقية، يجب عليها معالجة اتهامات التحيز وتبسيط عملياتها وإظهار نتائج ملموسة، وفشلها القيام بذلك ضمن المسألة الليبية يزيد من تآكل الثقة، وخاصة بين الدول غير الموقعة.
تؤكد انتقادات ليبيا وروسيا على التوترات العميقة فيما يتعلق بشرعية المحكمة الجنائية الدولية ونزاهتها وفعاليتها، وعملها في ليبيا ليس اختبارا لقدرتها على التعامل مع التفاعل المعقد بين القانون الدولي والسيادة والمساءلة، بل هو تأثير فعلي في مجريات الحدث الليبي وفي إغلاق ملفات رافقت السنوات الماضية، ويحتاج الليبيون لإغلاقها، فنزاهة المحكمة لم تعد مسألة أساسية أمام اتجاهات دولية عامة ترى في آليات المحكمة الطريقة المثلى لتآكل العدالة.
بقلم مازن بلال
ضبط شخص تشادي ينتحل هويات ليبية لتزوير وثائق