يقدم الخلاف داخل المجلس الأعلى للدولة في ليبيا مشهداً لصراع يعكس تناقضات التكوين السياسي فالمواجهة بين رئيسه السابق خالد المشري وخلفه محمد تكالة صورة واحدة لعدم الاستقرار المزمن في ليبيا.
يعكس الخلاف أيضاً العوامل المتعددة للانقسامات الداخلية، فبينما تشير التقارير إلى حصول تكالة على دعم من رئيس حكومة طرابلس منتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة، فإن المشري يحاول تقديم نفسه كشخصية مستقلة، مستنداً إلى خبرته السياسية، وهذا الصراع يضع “النخبة السياسية” الليبية في موقع صعب، فهي تتعامل مع بيئة معقدة تشكلت بفعل الضغوط السياسية، وكونتها شبكة المصالح التي ظهرت في الغرب الليبي، وفي نفس الوقت فإن الآلية السياسية التي أنتجت المجلس الأعلى أصحبت مولدة للخلافات السياسية.
المشري: من الإخوان المسلمين إلى الاستقلال السياسي
يُعد خالد المشري، المولود في عام 1967، أحد الشخصيات السياسية البارزة في ليبيا، حيث بدأ مسيرته كعضو في جماعة الإخوان المسلمين، لكنه تعرض للاعتقال مع أعضاء الجماعة الآخرين بين عامي 1998 و2006 خلال حكم معمر القذافي.
وبعد إطلاق سراحه أسهم في تأسيس حزب العدالة والبناء الذي شكل الذراع السياسي للإخوان، وكان لخالد المشري دور في دعم الحراك ضد الرئيس معمر القذافي، حيث عمل على التواصل مع القوى الثورية والإسهام في الجهود السياسية خلال المرحلة الانتقالية، وأصبح أحد الأطراف الفاعلة في المشهد الليبي ما بعد 2011.
وكما شغل وبعدها منصب رئيس المجلس الأعلى للدولة في عام 2018، وفي يناير 2019، أعلن المشري استقالته من جماعة الإخوان المسلمين، مبرراً ذلك بالمصلحة الوطنية وضرورة الوضوح مع الشعب الليبي.
ورغم هذه الاستقالة بقيت الانتقادات تلاحقه وتتهمه بالبقاء تحت تأثير الجماعة، ما ألقى بظلال من الشك على استقلاله السياسي، خلال فترة رئاسته للمجلس.
وشارك المشري في العديد من المبادرات الوطنية والدولية، ما عزز من حضوره كلاعب رئيسي في المشهد السياسي الليبي، وكان المشري يمتلك أسلوبه السياسي الخاص، حيث اعتمد بشكل كبير على المسارات القانونية لحسم النزاعات السياسية، وفي خلافه الحالي مع تكاله فإنه بقي مصراًعلى ضرورة احترام القضاء كوسيلة لإعادة الأمور إلى نصابها، معتبراً ذلك أساساً للحفاظ على الشرعية.
تكالة: وجه جديد وصورة للتكنوقراط
في الصورة المقابلة فإن محمد تكالة لا يملك تاريخاً سياسياً فهو شخصية أكاديمية، ولد عام 1966، ومختص في هندسة الحاسوب وشبكات الاتصالات، انتُخب في عام 2012 عضوا ًفي المؤتمر الوطني العام عن مدينته الخُمس، في أول انتخابات برلمانية بعد الإطاحة بالرئيس القذافي.
وتولى صفة مراقب بمكتب رئاسة المؤتمر الوطني العام، وعضوية لجنة المواصلات والاتصالات فيه، وشكل فوزه برئاسة المجلس الأعلى للدولة في أغسطس 2023 مفاجأة للكثيرين، خاصة مع التقارير التي أشارت إلى دعمه من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وأنصاره رأوا أن دعم الدبيبة له شكل خطوة ضرورية لدفع عجلة الإصلاح داخل المجلس، أما معارضوه فاعتبروا هذا الدعم تدخلاً للسلطة التنفيذية بعمل المجلس الأعلى للدولة، وتهديداً لاستقلاليته كمؤسسة استشارية.
وركز تكالة في خطابه السياسي على الحاجة لإعادة هيكلة المجلس وتعميق دوره، فقبل انتخابه رئيساً له أبدى اعتراضه على بعض الإجراءات التي اتخذها المجلس، مثل رفضه المصادقة على التعديل الدستوري وتشكيل لجنة “6+6” المشتركة بين مجلسي الدولة والنواب، كما عارض تمرير خريطة طريق المسار التنفيذي للقوانين الانتخابية، وهو سعى إلى إعادة النظر في بعض الاتفاقات السابقة مع مجلس النواب، وحمل خطابه أيضاً مطالبات بتعزيز دور المجلس في الإشراف على السياسات الاقتصادية والمحاسبية للدولة، مستفيداً من خبرته السابقة في هذا المجال.
أزمة قانونية تعمق الانقسام
وشهدت جلسة انتخاب تكالة انقساماً حاداً داخل المجلس، حيث وصف المشري وأنصاره الجلسة بأنها غير قانونية بسبب عدم استيفاء النصاب القانوني، بينما دافع أنصار تكالة عن شرعية الجلسة واعتبروها خطوة مهمة لإنهاء حالة الجمود التي كانت تعيق عمل المجلس، وتم رفع الخلافات إلى القضاء، حيث لجأ الطرفان إلى المحاكم للطعن في شرعية نتائج الانتخابات، وأصدرت المحكمة قراراً مؤقتاً بوقف تنفيذ النتائج، ما زاد من تعقيد الأزمة.
في 6 أغسطس 2024، أُجريت انتخابات جديدة لرئاسة المجلس، حيث عاد خالد المشري إلى المنصب بعد حصوله على 69 صوتاً مقابل 68 صوتاً لمحمد تكالة.
وأثارت هذه العودة مخاوف من نتائجها على الوضع السياسي في البلاد، خاصة مع استمرار الخلافات حول القوانين الانتخابية وتشكيل الحكومة.
وشهد المجلس الأعلى للدولة في ليبيا خلال الأشهر الماضية خلافات حادة حول رئاسة المجلس وشرعية الانتخابات الداخلية، بعد أن قضت محكمة جنوب طرابلس الابتدائية في 19 أغسطس 2024برفض الطلب المقدم من ثلاثة أعضاء في المجلس بشأن بطلان جلسة انتخاب الرئيس.
واستمرت التوترات بين المشري وتكالة، وأثرت هذه الخلافات على استقرار المجلس الأعلى للدولة وأدت إلى تعطيل بعض مهامه.
الدبيبة: اللاعب الخفي في الصراع
لا يمكن فصل النزاع الحالي داخل المجلس الأعلى للدولة عن دور عبد الحميد الدبيبة، حيث يعتبر دعمه لتكالة خطوة لتعزيز موقع حكومته لمواجهة خصومه السياسيين، خاصة في ظل محاولات مجلس النواب في الشرق الإطاحة به.
وتم توجيه اتهامات للدبيبة بالسعي للسيطرة على المؤسسات السيادية، بما في ذلك المجلس الأعلى للدولة، لضمان استمراره في الحكم دون انتخابات، وبالنسبة لتكالة، فإن دعم الدبيبة يمثل مصدر قوة رئيسي يمكنه من تحدي المشري وحلفائه، لكنه يثير تساؤلات حول استقلالية قرارات المجلس.
عملياً، فإن الصراع بين المشري وتكالة أدى لإضعاف المجلس الأعلى للدولة على عدة مستويات، حيث أفقده الشرعية نتيجة التشكيك بمصداقية المجلس كهيئة موحدة وقادرة على أداء مهامها الاستشارية، وحملت الخلافات المستمرة تعطيلا ًلقدرة المجلس على اتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بالاستقرار السياسي والمصالحة الوطنية، كما عكس الصراع تحديات أكبر وأوسع للمؤسسات الليبية، حيث تتداخل المصالح الفردية مع القضايا الوطنية، ما يعمق الانقسامات السياسية.
ليبيا بين التوافق والتصعيد
يبدو حل النزاع داخل المجلس الأعلى للدولة مسألة سياسية بامتياز، فالأحكام القضائية الصادرة لم تحمل معها أي انفراج في الأزمة، وقضية “الشرعية” في مسألة رئاسة المجلس باتت خاضعة للتوازنات السياسية، فحتى القضاء لم يستطع رسم ملامح الحل، فالنزاع الدائر يشير إلى تحديات أعمق تواجه ليبيا منذ سقوط النظام السابق، والمؤسسات التي أُنشئت لتحقيق الاستقرار باتت مسرحاً للصراعات الشخصية والسياسية، وفي ظل غياب انتخابات وطنية واتفاق شامل بين القوى السياسية، ستستمر ليبيا في دائرة مفرغة من الانقسامات والصراعات.
فالخلاف بين المشري وتكالة مثل اختباراً لقدرة المؤسسات الليبية على تجاوز خلافاتها والعمل نحو تحقيق الاستقرار، فبينما يعكس المشري التزاماً بالمؤسسات القضائية، يمثل تكالة قوة صاعدة مدعومة بمصالح سياسية متشابكة.
وأن التوصل إلى حل مستدام يتطلب حلاً شاملاً لا يتعلق فقط بالمجلس الأعلى بل بكافة المؤسسات الليبية، وهو أمر يبدو صعباً في ظل التأثيرات الدولية المختلفة، إضافة لنشوء شبكات مصالح في الغرب الليبي تستفيد من التعطيل الحاصل وتستفيد من المساحات التي تتيحها الخلافات.
بقلم نضال الخضري
ليبيا.. إحباط محاولة تهريب هواتف محمولة خارج البلاد