05 ديسمبر 2025

في بلد يطفو على بحيرة من النفط والغاز، يُفترض أن تكون الكهرباء خدمة بديهية لا نقاش فيها لكنها في ليبيا أصبحت امتيازاً نادراً، ينهار يومياً تحت وطأة الانقطاعات، بينما يجني البعض الأرباح من عتمة الملايين.

الحكاية ليست جديدة، لكن تفاصيلها تزداد وقاحة عاماً بعد عام، وآخر فصولها صفقة وُقِّعت في الظل بين شركة عامة يفترض بها خدمة الليبيين، وشركة يملكها نجل رئيس حكومة منتهية الولاية.

صفقة “التقنية”.. فساد رسمي بعقد موثّق

وثائق مسرّبة نشرها الناشط الحقوقي حسام القماطي كشفت توقيع محمد المشاي، مندوب الشركة العامة للكهرباء، عقداً مع شركة يملكها محمد عبدالحميد الدبيبة، نجل رئيس الحكومة منتهية الولاية، ويمنح الاتفاق 75% من أرباح المشروع لشركة نجل الدبيبة، مقابل 25% فقط للشركة العامة، ولا حاجة لتعليق هنا؛ فالنسبة وحدها تفضح المضمون في استغلال المال العام لخدمة المصالح الخاصة.

محمد المشاي، الذي شغل المنصب ممثلاً للشركة، كان سابقاً من رجال غنيوة الككلي، أحد أمراء الحرب في طرابلس، وانتقاله من رجل ميليشيا إلى ممثل رسمي لشركة حكومية في صفقة بهذا الحجم يكشف بوضوح أن النفوذ في ليبيا لم يعد حكراً على من يحتلون المناصب، بل على من يمتلكون مفاتيح الولاء.

هل قُتل غنيوة من أجل الأعمال؟

بعض المعلومات تتحدث عن أن اغتيال غنيوة الككلي لم يكن مجرد تصفية حسابات عسكرية أو سياسية كما تم الترويج له، بل يرتبط بصراعات خفية حول النفوذ الاقتصادي، وعلى وجه التحديد ملف الكهرباء، فـ”غنيوة” الذي تحوّل من قائد ميليشيا إلى فاعل أساسي في مراكز اتخاذ القرار داخل طرابلس، كان يمتلك حضوراً قوياً في مفاصل الدولة الموازية، بما في ذلك النفاذ إلى عقود ومشروعات استراتيجية.

هذا التمدد لم يكن يروق لكثيرين داخل الدوائر التي تحتكر القرار المالي، وبحسب مصادر قريبة من المشهد، فإن تداخل مصالحه مع جهات قوية، بعضها في السلطة وبعضها في “سوق الظل” للكهرباء والمولدات، جعله خطراً على منظومة راسخة من الفساد، فالميليشيات حين تستحوذ على مصدر دخل أو تقترب من صفقات كبرى، تصبح بشكل تلقائي هدفاً لمن يسعى للسيطرة المطلقة، وهذ ما يفسر الصمت شبه التام الذي تلا اغتياله، إذ لم تُفتح أي تحقيقات جادة، وكأن الدولة، بكل أجهزتها، قررت طي الصفحة حفاظاً على توازنات غير معلنة.

مطار طرابلس وقصة مشابهة مع كارة

لا تختلف قصة المطار كثيراً عن مشهد الكهرباء، فمجموعة كارة التي سيطرت على مطار معيتيقة، هدأت فجأة بعد بسط النفوذ، والرسالة واضحة فالسيطرة على البنية التحتية تعني ضماناً لعقود لاحقة وصفقات وموقع محترم في الاقتصاد الموازي، فالبندقية تفتح الأبواب، والشراكات تمنح الشرعية.

هذا النموذج يعكس كيف تحوّلت السيطرة على المرافق الحيوية في ليبيا من هدف أمني إلى استثمار استراتيجي للنفوذ، فالمطار شأنه شأن محطات الكهرباء والموانئ، لم يعد مجرد مرفق خدمي، بل أصبح ورقة مساومة تُستخدم لتأمين حصص في الاقتصاد الموازي، والحصول على عقود من الدولة أو عبر وسطاء، وكلما ترسّخ هذا النمط، زاد تحوّل الدولة من كيان سيادي إلى مساحة مفككة تتقاسمها قوى الأمر الواقع وفق منطق الغنيمة، لا القانون.

معاناة المواطنين: مناشير الظلام ورسائل الغضب

وسط هذا الفساد الممنهج، يعيش الليبيون أيامهم في عزلة كهربائية، ففي طرابلس، تحوّلت الحياة إلى جحيم يومي حيث لا إنارة ولا تبريد وأحياناً تنعدم الماء، الوضع في باقي المدن الليبية لا يقل سوءاً، فالمشهد يتكرر في كل مدينة؛ أحياء غارقة في الظلام، ومرضى يبحثون عن الكهرباء لتشغيل أجهزة التنفس، وطلاب لا يستطيعون الدراسة، وشركات صغيرة تتوقف عن العمل.

منذ عام 2021، صُرفت أكثر من 16 مليار دينار على الشركة العامة للكهرباء، ونصفها بعقود مشبوهة، دون أن تتحسّن الخدمة، وفي 2022، بلغ الإنفاق الحكومي على الكهرباء نحو 11.8 مليار دينار بحسب اعتراف وزير التخطيط في حكومة الدبيبة، والمفارقة أن هذه الأموال اختفت في مشاريع غير مكتملة، أو ذهبت لشركات مثل تلك التي يملكها نجل عبد الحميد الدبيبة.

هل الدبيبة وعائلته فوق القانون؟

منذ سنوات، تتكرر الفضائح المالية لعائلة الدبيبة، من عقود النفط، إلى السكن، وأخيراً الكهرباء، ودون أن يُحاسب أحد، فلا البرلمان تحرّك، ولا النيابة بادرت، رغم الكم الهائل من الوثائق والتقارير.

وفي 2022، خرج الدبيبة ليعترف: “فشلنا في إدارة أزمة الكهرباء.. أخدنا قرارات خاطئة”، ولكن هذا الاعتراف لم يكن بداية للمحاسبة، بل تمهيداً لصفقات أكبر، فالخلل في ليبيا ليس في غياب الموارد، بل في مزيج قاتل من فساد سياسي وميليشيات تُحرك الدولة كدُمية، والكهرباء نموذج مثالي لهذا الفساد المركّب، فهناك

  • شركة حكومية تنهار خدماتها.
  • مليارات تصرف في مشاريع بلا تنفيذ.
  • رجال ميليشيات يتحوّلون إلى مسؤولين.
  • شركات خاصة تعقد صفقات بأرباح خيالية.

وفي النهاية، المواطن هو الضحية.

حكومة حماد: بصيص من الضوء؟

في الجهة المقابلة، تعمل الحكومة المكلفة من البرلمان برئاسة أسامة حماد على إعادة تأهيل الشبكة، وربط الكهرباء بخطط الإعمار في الشرق، ومنذ بدء التعاون بين وزارة الكهرباء وصندوق الإعمار برئاسة بلقاسم حفتر، تحسنت الخدمة في مناطق عدة.

لكن لا يزال الطريق طويلاً، فالحكومة بحاجة لدعم حقيقي ومساءلة قوية لعقود السنوات الماضية، خاصة في ظل استمرار نفوذ حكومة الدبيبة المنتهية الولاية في الغرب.

من يربح من استمرار الأزمة؟

كلما طال انقطاع الكهرباء، زادت أرباح بعض شركات المولدات والمستفيدين من العقود المشبوهة، فالكهرباء في ليبيا لم تعد مجرد خدمة، بل سوق مواز ضخم يوزَّع بين أطراف نافذة، والمواطن يُترك ليتحمّل العتمة، والحرّ، والإذلال اليومي.

ما يحدث في ملف الكهرباء هو صورة مصغّرة لأزمة الحكم في ليبيا، الصراع ليس بين الشرق والغرب، بل بين من يرى الدولة كغنيمة، ومن يسعى لاستعادتها كمؤسسة، وإن لم تُفتح ملفات مثل عقد “عالم التكنولوجيا” للمحاسبة القضائية العلنية، وإن لم يُستدعَ محمد المشاي ومن ورائه، فإن الظلام سيبقى هو القاعدة، والنور هو الاستثناء.

المعركة القادمة في ليبيا لن تُحسم بالسلاح، بل بالحقيقة، وكشف الحقيقة يبدأ من سؤال بسيط: من يربح من انقطاع الكهرباء؟

  بقلم: نضال الخضري

ليبيا.. مؤتمر بنغازي حول الهجرة غير الشرعية يدعو إلى قمة إفريقية لوضع استراتيجية موحدة

اقرأ المزيد