20 مارس 2025

صورة ليبيا السياسية باتت على المحك مع العودة لحلول سياسية قديمة، فاقتراح نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي، موسى الكوني، في العودة إلى نظام الحكم الفيدرالي في ليبيا، استنادا إلى التجربة خلال عهد الملك إدريس السنوسي، يشكل حلا يحمل مخاطر متعددة.

يأتي هذا الطرح في وقت تعاني فيه ليبيا من انسداد سياسي حاد وانقسام داخلي، فخلال لقاء الكوني مع رئيس المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عماد السايح، وآمر المنطقة العسكرية بالساحل الغربي الفريق صلاح الدين النمروش، أشار الكوني إلى أن العودة إلى نظام المحافظات كسلطة تنفيذية سيمكن جميع المناطق من إدارة مشاريعها وتلقي ميزانياتها مباشرة، ما يخفف العبء عن الحكومة المركزية في طرابلس، وأكد أن المركزية أدت إلى تفاقم الأزمات وأرهقت العاصمة، داعيا إلى توزيع السلطة بشكل أكثر عدالة بين المناطق.

الكوني تحدث سابقا خلال لقائه السفير البريطاني مارتن لونغدن عن ضرورة “العمل بنظام الأقاليم الثلاثة بمجالس تشريعية مستقلة”، وهو ما فُسر على أنه محاولة لإعادة إحياء الفيدرالية كحل سياسي لضمان الاستقرار.

حجج مؤيدي الفيدرالية

انطلق الكوني من مساحة سياسية سابقة شكلت نتيجة الأزمة الليبية الحالية اتجاها جديدا، فتجربة الفيدرالية عاشتها ليبيا في مرحلة مبكرة من تاريخها السياسي المعاصر، ومؤيدو هذا الاتجاه ينطلقون من النموذج الذي تم ما بين 1951 و 1963، ويرون فيه مرحلة من النجاح السياسي، حيث كان نظام الحكم في “المملكة الليبية المتحدة” بعد استقلال ليبيا في “24 ديسمبر 1951” فيديراليا وتم اعتماده في “دستور 1951″، وتم تقسيم البلاد إلى ثلاث ولايات (برقة، طرابلس، وفزان)، ولكل منها حكومة محلية تتمتع بصلاحيات واسعة في القوانين والإدارة، بينما تولت الحكومة الاتحادية الأمور السيادية مثل الدفاع والخارجية والمالية.

وفي النظام الفيديرالي الليبي تمتعت الولايات بسلطة التشريع في شؤونها المحلية، بينما كانت الحكومة الاتحادية مسؤولة عن الشؤون العامة، وكان الملك “إدريس السنوسي” هو رأس الدولة، وكانت الحكومة تخضع للرقابة الدستورية، وووفّر النظم الفيدرالي نوعا من التوازن بين الأقاليم، خاصة مع التنوع الجغرافي والسياسي، وساعد في إعطاء كل منطقة حرية إدارة مواردها وفقا لأولوياتها.

في عام 1963 أُلغيت الفيدرالية بموجب تعديل دستوري، وتحولت البلاد إلى نظام مركزي تحت مسمى المملكة الليبية بدلا من المملكة الليبية المتحدة، وجاء الإلغاء نتيجة تعقيد الإدارة الفيدرالية وصعوبة التنسيق بين الأقاليم، والرغبة أيضا في تحقيق مزيد من الوحدة الوطنية وتسهيل عمليات التنمية والتخطيط، ونجحت الفيدرالية في ضمان التوازن السياسي والاستقرار، خاصة في بلد حديث الاستقلال وذي تركيبة مناطقية مختلفة، لكنها من جانب آخر كانت غير فعالة اقتصاديًا وإداريا في بعض الحالات، مما أدى إلى تفضيل الحكم المركزي لتحقيق تنمية متكاملة.

الفيدرالية الحديثة وأنصارها

بالنسبة لأنصار الفيدرالية فإنهم يتعاملون مع النتائج المباشرة لسنوات الأزمة الليبية، ويستندون إلى طبيعة الحكم المركزي في طرابلس الذي أنتج على مدى سنوات قليلة حالة من الإرهاق السياسي، ومع تفاقم الأزمات التي خلفتها حكومة عبد الحميد الدبيبة منتهية الولاية في الغرب الليبي فإن طرح الفيدرالية وفق أنصارها سيخفف من احتكار الموارد والسلطة التي اتبعها الدبيبة، وأدت لزيادة حدة التوتر بين المناطق المختلفة.

إضافة إلى ذلك فإن الفيدرالية ستحقق وفق أصحاب هذا الاتجاه لعدالة في توزيع الموارد، حيث يستطيع نظام الأقاليم ضمان وصول الميزانيات والخدمات مباشرة للمناطق، بعيدا عن تعقيدات البيروقراطية المركزية، وسينعكس هذا الأمر على المجتمعات المحلية من خلال تعزيز الاستقرار عبر إعطاء كل إقليم صلاحيات واسعة، ويمكن تعزيز الحكم المحلي ما يحد من النزاعات على السلطة في العاصمة.

حجج المعارضين للفيدرالية

الصورة المثالية التي يطرحها مناصرو الفيدرالية تحمل في تفاصيلها تحديات ومخاطر متنوعة، فالحلول المقدمة تحاول تجاوز الصراعات التي ظهرت خلال الحرب في ليبيا، وتتجاهل في نفس الوقت التنافس الإقليمي والدولي على الأرض الليبية، فالفيدرالية تحمل معها مخاطر التقسيم، فالأقاليم المقترحة وفي ظل التناقضات السياسية القائمة حاليا يمكن أن تؤدي وبشكل سريع إلى تفكيك البلاد وتحويلها إلى دويلات متناحرة.

عمليا فإن التنوع الليبي الذي شكل عبر الزمن وحدة وطنية سيدخل عبر الفيدرالية في تحد كبير، وهو ما أكده عضو مجلس النواب، علي التكبالي، في أن الفيدرالية “كلمة باطل يُراد بها باطل”، مشيرا إلى أنها تفتح الباب أمام تدخلات خارجية ومحاولات تقويض الدولة، ويضاف إلى ذلك طبيعة ليبيا بثرواتها حيث يمكن أن يؤدي إنشاء كيانات إقليمية إلى خلافات حادة حول توزيع النفط والموارد الأخرى، ويشعل صراعات جديدة.

في البعد السياسي الداخلي فإن انتقاد الفيدرالية انطلق من مسألة صلاحيات المجلس الرئاسي، فالمعارضون لهذه الفكرة اعتبروا أن طرح الكوني خلال لقاءات دبلوماسية مسألة الفيدرالية هو تجاوز لصلاحيات المجلس الرئاسي، حيث لا يملك الكوني صلاحية طرح نظام حكم جديد، فهذا القرار يجب أن يكون بيد الشعب عبر استفتاء دستوري.

ردود الفعل السياسية

أثارت تصريحات الكوني غضبا شديدا في الأوساط السياسية الليبية، حيث وصف النائب محمد عامر العباني ما قاله الكوني بأنه “حنث باليمين”، مطالبا بتوجيه تهمة الخيانة العظمى إليه، كما دعا إلى إيقافه عن العمل وتحريك دعوى قانونية ضده، بينما انتقد وكيل وزارة الخارجية الأسبق، حسن الصغير، الكوني بشدة، معتبرا أن دعوته تهدف إلى استمالة أبناء إقليم فزان لأغراض سياسية، مضيفا أن الكوني لم يقدم شيئا فعليا للمنطقة منذ توليه منصبه.

لكن طرح الكوني ورغم الانتقادات فتح مساحة نقاش داخل الأوساط السياسية، ففكرة الفيدرالية رغم مخاطرها ظهرت في مرحلة سياسية تبدو فيها كافة الأطراف عاجزة عن تجاوز الأزمة، وهو ما جعل هذه المسألة تخل في عمق المشهد السياسي الليبي، ورفض الفيدرالية بالكامل دون مناقشتها لم يعد ممكنا طالما أن الانسداد السياسي مستمر، فالتطرق إلى كافة الحلول، حتى ولو كانت خطرة أصبح جزءا من التعامل السياسي في ليبيا.

المخاوف الدولية والتدخلات الخارجية

لم يقتصر الجدل حول الفيدرالية على الداخل الليبي، بل أثار أيضا اهتمام القوى الدولية، حيث أكدت بريطانيا اهتمامها بمناقشة “جميع الحلول الممكنة” لتحقيق الاستقرار في ليبيا، وهذا الاهتمام الدولي بالدعوة للفيدرالية يثير بعض المخاوف من جعلها بوابة لرسم أجندات خارجية تهدف إلى إضعاف ليبيا وتحويلها إلى مناطق نفوذ متفرقة، أو حتى التعامل مع الأقاليم المقترحة وفق تحالفات ضيقة على المستويين الإقليمي والدولي، خصوصا في ظل توزع الثروة الليبية على كامل جغرافيتها، ما يجعل التنافس الدولي على النفوذ في الأقاليم حادا.

إن طرح الفيدرالية يشكل اليوم مساحة نقاش واسعة، ومن المستبعد أن يتحول قريبا إلى مشروع سياسي قابل للتنفيذ، وهو مثل العديد من المقترحات التي ظهرت على امتداد الأزمة سيصيح جزء من الرؤى السياسية المطروحة، لكن تحقيقه سيحتاج إلى إجراء استفتاء حول شكل الحكم وهو أمر مازال بعيدا في ظل الواقع الليبي المقسم.

إن رؤية الفيدرالية وتصريحات موسى الكوني حولها؛ تعكس الانقسام العميق في المشهد السياسي الليبي، فبينما يرى البعض أن الفيدرالية هي جزء من الحل لإنهاء حالة الانسداد السياسي، يعتقد آخرون أنها ستؤدي إلى تقسيم البلاد وتفاقم أزمتها، ومع استمرار التجاذبات السياسية، يبقى مستقبل نظام الحكم في ليبيا مرهونا بالتوافق الوطني ومدى قدرة القوى السياسية على إيجاد حلول تحقق العدالة والاستقرار دون المساس بوحدة البلاد.

بقلم مازن بلال

اقرأ المزيد