19 سبتمبر 2024

يبدو الغرب الليبي مساحة مفتوحة لصراعات النفوذ بين القوى السياسية والعسكرية، فهو بقي حلبة للتنافس الذي يصل إلى درجة الاشتباك العسكري، ونموذجاً صارخاً لفقدان سيادة الدولة.

وتقع العاصمة طرابلس في قلب العنف المستمر، فرغم وجود حكومة ومؤسسات للدولة، إلا أن المنطقة تعاني من عدم الاستقرار نتيجة التنافس بين مراكز القوة التي نشأت خلال سنوات الصراع.

وتعكس الاشتباكات الأخيرة طبيعة القضايا العميقة التي تهدد السلام الهش في المنطقة، فصعود الفصائل المسلحة في ليبيا الذي يعود للفترة التي تلت سقوط معمر القذافي في عام 2011، كان يشكل في البداية حالة لملء الفراغ الأمني، لكنه تحول مع مرور الوقت إلى ميليشيات قوية ذات تأثير نفوذ داخل طرابلس وفي الغرب الليبي عموماً.

ولم تستطع الحكومة في الغرب الليبي بسط سيطرتها وفضلت الاعتراف بتلك الميليشيات وجعلها جزء من قوة فرض القانون عبر دفع مستحقات مالية لها، وأدى هذا الأمر إلى صراعات لم تقتصر فقط على المجموعات المسلحة، بل وصلت إلى الحكومة التي أصبحت جزء من شبكة سياسية وعسكرية تسيطر في الغرب الليبي.

التشكيلات العسكرية والشبكة السياسية

لا تنفصل المجموعات المسلحة سواء في أهدافها أو حركتها عن التكوين السياسي في الغرب الليبي، فـ”اللواء 444″ ظهر كمجموعة منشقة عن قوات الردع، وتشكل وفق العديد من التقارير بدعم تركي مباشر، وهو الآن أحد أكثر الكيانات العسكرية قوة في غرب ليبيا، ويعمل بقيادة العقيد محمود حمزة وتحت إشراف هيئة الأركان العامة للجيش الليبي، حيث يسيطر على أجزاء كبيرة من جنوب طرابلس، ويمتد نفوذه إلى المدن الرئيسية في غرب ليبيا، مثل ترهونة وبني وليد، كما يؤمن اللواء مساحات شاسعة من الطريق الذي يربط طرابلس بجنوب البلاد.

أما قوة الردع فهي كيان عسكري آخر في طرابلس، بقيادة الزعيم السلفي عبد الرؤوف كارة، وتأسس في الأصل كمجموعة ميليشيا، وتطور إلى جهاز أمني رسمي يتمتع بنفوذ كبير على المناطق الوسطى والشرقية في طرابلس، وتسيطر قوة الردع أيضاً على مؤسسات الدولة الرئيسية، بما في ذلك مطار معيتيقة، ورغم أنها تتبع رسمياً لحكومة الدبية، لكنها تسيطر على عدة منشآت حيوية في طرابلس، ما يمنحها القدرة على جمع الأموال من الأنشطة الاقتصادية المختلفة، بما في ذلك فرض الرسوم على الشركات الأمنية الخاصة، وهناك تقارير تشير إلى أنها تلقت دعماً من بعض الدول أو المنظمات الدولية.

الاشتباكات الأخيرة

توضح الاشتباكات بين الفصيلين في يوليو 2024 أن قدرة حكومة طرابلس ليست محدودة فقط تجاه هذه الفصائل، بل تحمل معها تشابكاً في المصالح يدفع الحكومة لترك الفصائل تعمل خارج إطار القرارات الرسمية، فالتوترات بين الفصائل عموما وليس بين الردع واللواء 444 حصراً؛ هي نتيجة خلافات حول السيطرة على مناطق استراتيجية في العاصمة.

ويدخل في هذا الإطار الاشتباكات التي اندلعت مؤخراً في ضاحية تاجوراء شرق العاصمة طرابلس وأدت لمقتل تسعة أشخاص وإصابة 16 آخرون بجروح في 10 أغسطس 2024، وذلك بسبب النفوذ والصراع على الاعتمادات المالية بين ميليشيا “رحبة الدروع” بقيادة بشير خلف الله المعروف باسم “البقرة” وميليشيا “صبرية” المدعومة من مفتي ليبيا المعزول الصادق الغرياني.

ويعيد المشهد الحالي في طرابلس صورة العاصمة قبل عام تقريباً، عندما اندلعت اشتباكات في أغسطس 2023، وكانت من أسوأ أعمال العنف في السنوات الأخيرة، وبدأ الصراع بعد أن قامت قوات الردع، التي تسيطر على مطار معيتيقة في طرابلس، باعتقال محمود حمزة، زعيم اللواء 444، وأشعل هذا الحدث مواجهات عنيفة بين الفصيلين، مما أبرز هشاشة التحالفات التي تدعم الحكومة في طرابلس، ورغم التوصل إلى وقف إطلاق نار مؤقت، فإن الوضع بقي متوتراً، حيث يحتفظ كلا الطرفين بسيطرتهما على الأرض.

التداعيات السياسية

إن هذه الاشتباكات ليست حوادث منفصلة لأنها مرتبطة بقضايا سياسية أعمق في ليبيا، فالحكومة بقيادة عبد الحميد الدبيبة، لا تزال في السلطة بفضل تأثير هذه الجماعات المسلحة، وعدم الاستقرار ساعده على المناورة بين الفصائل المتنافسة، إذ أبقى على توازن هش خدم مصلحته في البقاء في السلطة.

ووسط وجود الميلشيات وشبكة علاقاتها مع الحكومة ورجال السلطة في طرابلس فإن محاولات الأمم المتحدة تظهر في سياق آخر، فالمفارقة الأساسية أن مسألة تسهيل الحوار التي ترعاها الأمم المتحدة تجرى بين أطراف غير متوازنة، على الأخص أن أي مفاوض في الغرب لا يستطيع تجاهل “قوى الأمر الواقع” المتمثلة بنفوذ الفصائل المسلحة، فالعملية السياسية الليبية تعيش مأزقاً يبدأ وينتهي في طرابلس نتيجة الانقسامات العميقة بين الفصائل المختلفة، والمصالح الأجنبية المتضاربة التي تجعل من الصعب ضبط الوضع الأمني لأنه البيئة الأفضل لتحقيق مكاسب أوسع لبعض الدول الغربية.

الفوضى في الغرب الليبي هي أكثر من مجرد صراع مسلح؛ إنها تعكس الصراع الأوسع للنفوذ الغربي الذي يعزز الانقسام ويتيح للشبكة السياسية والعسكرية في الغرب في استثمار هذه الفوضى لتعطيل العملية السياسية.

بقلم نضال الخضري

صندوق النقد الدولي يتوقع نمواً للاقتصاد الليبي يصل إلى 8% خلال العام الحالي

اقرأ المزيد