منذ أكثر من عقد على سقوط نظام القذافي، يعيش الليبيون على إيقاع فضائح الفساد التي لا تنتهي، فكلما ظنّ المواطن أن صفحة طُويت، انكشفت أخرى أكثر ظلمة، وأصبح الفساد جزءاً من المشهد اليومي لا يمكن فصله عن تفاصيل الحياة العامة.
اللافت أن هذه القضايا لم تعد استثناءً عارضاً في مسيرة الدولة، بل تحولت إلى نظام حكم مواز، يتكئ على غياب المؤسسات، وتواطؤ النفوذ السياسي، وتغول المصالح الخاصة على حساب المصلحة الوطنية.
أحدث تلك القضايا تبدأ من فضيحة الـ73 مليون يورو المستثمرة في شركة أسلحة ألمانية، إلى حبس وزراء التعليم والصحة، مروراً بملفات الاتصالات والاختلاسات الخارجية، وتكشف أن الفساد في ليبيا لم يعد مجرد انحرافات فردية، بل منظومة عميقة تحكم الاقتصاد والإدارة والقرار السياسي.

فساد بلا حدود: من المكاتب إلى القصور
ينشر الباحثون الليبيون بشكل دوري تقارير عن الاختلاسات والنهب المالي، وما يثير الاهتمام أن الأجهزة الأمنية، التي تتحرك أحياناً لاعتقال مسؤول أو وكيل وزارة، تتوقف فوراً عندما يقترب الخيط من رئيس الحكومة منتهية الولاية عبد الحميد الدبيبة أو أحد المقربين منه.
ففي ليبيا الفساد درجات حيث يجوز القبض على موظف صغير اختلس بضع مئات، لكن لا يجوز المساس بمن يبدد المليارات، وهذه الازدواجية تتجلى في أكثر من ملف، من قضية نجل محمد تكالة الذي ضُبط في تركيا وبحوزته 20 مليون دولار، إلى الفضيحة الاستثمارية الكبرى التي حول فيها مسؤولون أموال الاتصالات الليبية إلى شركة أسلحة ألمانية، في خرق صارخ للقوانين والقرارات الدولية.
الاستثمار في شركات أسلحة
سرديات الاستثمار في شركة أسلحة بدأت بتوظيف ناجح لقطاع الاتصالات في شركة إيطالية تُدعى “ريتليت”، وجرى لاحقاً بيع أسهم هذا الاستثمار بأرباح بلغت 73 مليون يورو، غير أن إدارة جديدة وضعت يدها على المبلغ، وحولته إلى شركة استثمارية في لوكسمبورغ، ثم فجأة إلى بنك صغير في إيطاليا، قبل أن تستثمر كامل المبلغ في أسهم شركة الأسلحة الألمانية هيكلر آند كوخ.
لم يكن الأمر مجرد مغامرة مالية؛ بل فضيحة سياسية وأخلاقية، لأن المال العام استخدم في تمويل صناعة السلاح، في وقت تعاني فيه ليبيا من الفقر والعوز وانقطاع الكهرباء ونقص الأدوية.
وعندما حاول الدبيبة استعادة الأموال لتغطية نفقات حكومته، فوجئ بأنها “حبست” في شكل أسهم، لا يمكن تسييلها بسهولة، فكانت النتيجة أن الفساد أوقع الحكومة نفسها في فخ العجز المالي.

حكومة المناصب المتعددة: الشهوبي نموذجاً
في موازاة ذلك، تتكشف صورة أخرى من صور اختلال السلطة في ليبيا من خلال التركيز المفرط للنفوذ في يد أفراد قلائل، فوزير النقل والمواصلات والمستشار المالي لرئيس الحكومة، محمد الشهوبي، يتولى ما لا يقل عن خمسة عشر منصباً رسمياً، من وزارة المواصلات إلى المالية المكلفة، مروراً باللجان العليا للميزانية والكهرباء والطيران.
هذه الظاهرة ليست مجرد تضارب مصالح، بل تعبير عن عقلية الحكم الشخصي التي تحول الدولة إلى إقطاعية، وتختزل المؤسسات في شخص واحد، وتدار الملفات المالية والاقتصادية بقرارات غير شفافة، بعيدة عن أي رقابة.
عائلة الدبيبة: حين تتقاطع العائلة والدولة
القضية لا تتوقف عند الشهوبي أو الوزراء الموقوفين، بل تمتد إلى شبكة نفوذ مترابطة يقف على رأسها عبد الحميد الدبيبة نفسه، الذي حول، بحسب تقارير موثقة، قطاع الاتصالات إلى خزينة مالية خاصة.
شركات مثل ليبيانا والمدار وهاتف ليبيا لم تعد كيانات وطنية، بل “واجهات” تابعة لشبكة مالية يديرها أقارب الدبيبة، من بينهم ابن عمه محمد بن عياد ووزير الدولة للاتصال وليد اللافي.
هذه الشبكة تتحكم في منظومات الاتصالات والمصارف وحتى البيانات الشخصية للمواطنين، وصولاً إلى السيطرة على تدفق الأموال والعقود، وسط شبهات تجسس وابتزاز سياسي.
تقارير بريطانية ربطت زيارة الدبيبة الأخيرة إلى لندن بمحاولة التدخل لإطلاق سراح قريب له متهم بجرائم مخدرات وأسلحة، ما يعكس كيف تتقاطع مصالح العائلة الحاكمة مع ملفات الدولة الخارجية.

من التعليم إلى النفط: الفساد ينهش كل قطاع
لا يكاد قطاع في ليبيا يسلم من الفساد، ففي التعليم، تتكرر كل عام أزمة الكتاب المدرسي التي حولت حق الأطفال في التعليم إلى معاناة وطنية، فوزيران متعاقبان، موسى المقريف ثم علي العابد، سجنا بتهم تتعلق بتأخر طباعة الكتب وإهدار مخصصات بمئات الملايين.
وفي قطاع النفط، تتوالى فضائح العقود الوهمية والعمولات، إذ تم توقيف رئيس شركة “الواحة للنفط” بتهمة إبرام عقود حفر بقيمة 769 مليون دينار رغم وجود عروض أرخص بكثير، في تجاوز واضح للقوانين.
أما في قطاع الصحة، فتحولت عقود الأدوية إلى باب خلفي للاختلاس، حيث كشفت صفقات لاستيراد أدوية منتهية الصلاحية بأسعار مضخمة، بينما ترك المرضى بلا علاج.
القضاء والرقابة: أجهزة عاجزة أم مخترقة؟
الأجهزة الرقابية من ديوان المحاسبة إلى هيئة مكافحة الفساد تبدو، في أحسن الأحوال، متفرجة على المشهد، وهناك استحالة في وجود رقابة مالية تستطيع ضبط الوضع، وبعض رؤساء هذه الأجهزة متهمون بتجاوزات أو خضوع لضغوط سياسية.
النائب العام الصديق الصور، الذي ينظر إليه بوصفه آخر خطوط الدفاع عن العدالة، يواجه اتهامات من ناشطين بالتباطؤ في ملاحقة رؤوس الفساد الكبرى، بينما يركز على القضايا الأصغر، ومع ذلك، يبقى مكتبه بارقة أمل في نظام يكاد ينهار تحت ثقل الإفلات من العقاب.

الفساد كمنظومة تدمير ممنهجة
تصف تقارير هيئة الرقابة الإدارية الفساد في ليبيا بأنه “منظومة تدمير ممنهجة للاقتصاد الوطني”، فهو يتغلغل في كل المؤسسات من البلديات إلى الوزارات والمصارف.
ولا يتعلق نشاطه بسرقة أموال فقط، بل تعطيل متعمد لعجلة التنمية، فهناك مشاريع متوقفة ومستشفيات بلا تجهيزات وكهرباء منقطعة ومدارس متهالكة، بينما تتحدث الميزانيات عن مئات المليارات المصروفة، وبلغت تكلفة الفساد منذ 2011 أكثر من 277 مليار دينار ليبي وفق ديوان المحاسبة، وهو رقم يعادل ميزانيات دول كاملة.
أمام هذا الواقع، يعيش المواطن الليبي حالة من الغضب واليأس، فالشعور الجماعي بالخذلان يعكس عمق الأزمة الأخلاقية فحين يرى الناس الوزراء يُحبسون دون تغيير في النظام تفقد العدالة معناها.

بين القضاء والمجتمع الدولي: ازدواجية الصمت
السكوت الدولي عن هذه الفضائح يثير الريبة، فبينما تصدر تقارير الأمم المتحدة عن الفساد الليبي، لا تتخذ خطوات حقيقية لدعم مؤسسات العدالة أو محاسبة المتورطين، فالقوى الغربية تغضّ الطرف عن تجاوزات حكومة الدبيبة لأنها تضمن استقراراً هشاً يحمي مصالحها النفطية والأمنية، ويتحوّل الاستقرار” إلى غطاء للفساد بدلا ًمن وسيلة لبناء دولة.
ما يجري في ليبيا اليوم ليس مجرد سوء إدارة، بل انهيار ممنهج للدولة عبر شرعنة الفساد وتحويله إلى أداة حكم، ولا تزال هناك فرص للإنقاذ، فإرادة الشعب، وضغط الإعلام والباحثين، واستمرار جهود النيابة العامة – رغم محدوديتها – يمكن أن تمهّد الطريق لإصلاح حقيقي.
لكن الشرط الأساس هو كسر دائرة الإفلات من العقاب، وتطبيق مبدأ الشفافية على الجميع دون استثناء، من أصغر موظف إلى أعلى رأس في السلطة.
ففي النهاية، لا يمكن بناء دولة تحترم مواطنيها ما دامت تدار بعقلية الغنيمة، ولا يمكن أن تزدهر ليبيا ما لم تسترد أموالها، ويستعاد ضميرها قبل مواردها.
بقلم نضال الخضري
تونس تعيد إحياء مشروع تطوير معبر الذهيبة الحدودي مع ليبيا بعد تسع سنوات من التجميد
