23 مارس 2025

يمثل استمرار وزير التربية والتعليم، موسى المقريف، في منصبه رغم إدانته السابقة بتهم الفساد والمحسوبية، علامة بارزة على عمق الأزمة السياسية والإدارية التي تمر بها حكومة “الوحدة الوطنية”، منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.

يطرح عدم إقالة المقريف من منصبه، منذ أول قضية فساد له عام 2021، سؤالاً أساسياً عن العلاقة بين بيئة الفساد وحكومة طرابلس، فرغم الحكم القضائي الصادر ضد المقريف والاعتقال الاحتياطي له في أواخر عام 2021، بعد اتهامه بالإهمال والتسبب في تأخير طباعة الكتاب المدرسي، إلا أن المحكمة أطلقت سراحه في مارس 2022 بعد رفض الدعوى واستمر المقريف في ارتكاب تجاوزات قانونية وإدارية خطيرة داخل الوزارة وذلك حسب التقارير الواردة من الرقابة والتفتيش.

تراكم المخالفات الإدارية والمالية

لا تقتصر انتهاكات المقريف على مسألة الكتب المدرسية، فالوثائق الرسمية تكشف سلسلة طويلة من الإجراءات التي قام بها تعبر عن حالة فساد عمت الوزارة، فهو قام بصرف 2.8 مليون دينار من ميزانية مراقبات التربية والتعليم دون مستندات داعمة، وغيًر محاضر لجنة المشتريات عدة مرات دون اعتماد رسمي، كما منح سيارات حكومية لأشخاص غير مرتبطين بالوزارة، بما في ذلك سيارة صنفت على أنها “مسروقة” في تقرير ديوان المحاسبة، وقام بإيفاد أشخاص لمهام رسمية في الخارج دون صفة رسمية.

إضافة لذلك فإن المقريف عطل منصة العطاءات والمشتريات منذ بداية 2023، وسمح بالتعاقد مع شركات محددة دون شفافية، وشملت إجراءاته حالة عرقلة العملية التربوية مثل إيقاف توريد المقاعد المدرسية رغم إتمام إجراءات منذ أغسطس 2023، وتكررت في وزارته حالات إيفاد مستشارين متهمين باختلاس المال العام إلى الخارج، إضافة لإعادة تدوير مبلغ 12.5 مليون دينار بشكل غير قانوني.

غياب المساءلة

بعد أول حكم قضائي صادر بحق موسى المقريف استمر في ممارسة مهامه، وتم تكريمه بدرع التميز من مراقبة التربية والتعليم ببلدية العربان بعد يوم واحد من صدور الحكم ضده، وهذه المفارقة تسلط الضوء على مشكلة أكبر تتعلق بعدم احترام الأحكام القضائية في ليبيا، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمسؤولين مقربين من السلطة التنفيذية، وهذا التصرف داخل حكومة الدبيبة ليس جديدا،ً فسجلات حكومته تحمل تورط وزراء آخرين في قضايا فساد دون اتخاذ إجراءات رادعة بحقهم، فوزير الصحة السابق، علي الزناتي، أُوقف احتياطياً عام 2022 بسبب تجاوزات مالية، ووزيرة الثقافة والتنمية المعرفية، مبروكة توغي، اعتُقلت لنفس الأسباب في 2021، ووزير النفط والغاز، خليفة عبد الصادق، حُبس احتياطياً في 2024 بتهمة الفساد المالي، وتشير هذه القضايا إلى أن ثقافة الإفلات من العقاب أصبحت جزءاً من نمط الحكم في حكومة طرابلس.

ويبدو واضحاً في قضية موسى المقريف طبيعة ارتباطه بالدبيبة الذي قام بحمايته، وذلك من خلال سياسة خاصة ينتهجها في الدفاع عن مسؤوليه المتهمين بالفساد، حيث يقوم بتغطية وزرائه عبر تبريرات مرتبطة بالوضع الليبي العام، وبحجة أن حكومته تتعرض لحملة استهداف سياسي، وهو ما يفسر تردده في إقالة الوزراء رغم إدانتهم قضائياً، كما يعكس ضعف مؤسسات الدولة الرقابية والقضائية وتواطؤها ضمنيا ًفي استمرار هؤلاء المسؤولين في مناصبهم، حيث تصبح الاعتبارات السياسية أكثر تأثيراً من الأحكام القضائية.

حكم السجن والغرامة الهزيلة: استخفاف بالقضاء والرأي العام

محكمة الاستئناف في طرابلس أصدرت يوم الأحد 16 مارس حكماً بسجنه لمدة ثلاث سنوات وستة أشهر، إضافة إلى تغريمه مبلغاً رمزياً قدره ألف دينار ليبي فقط، مع حرمانه من حقوقه المدنية خلال مدة تنفيذ العقوبة وسنة إضافية بعدها، وجاءت الإدانة بعد ثبوت تورطه في تجاوزات مالية وإدارية، من ضمنها ممارسة الوساطة والمحسوبية في إدارة التعاقدات المتعلقة بطباعة وتوريد الكتاب المدرسي.

وتكشف قضية المقريف مؤشرات على عدم التعامل مع المؤسسة القضائية بجدية، وجعلها على هامش اعتبارات حكومة طرابلس، فالحكم الذي صدر ضده شمل غرامة قدرها 1000 دينار ليبي فقط، وهو مبلغ يعكس مدى التساهل مع جرائم الفساد الكبرى، فبالنظر إلى حجم الأموال التي أُهدرت بسبب قرارات الوزير، يبدو هذا المبلغ رمزياً، والغرامة المنخفضة تطرح تساؤلات حول جدية السلطات في مكافحة الفساد وردع المسؤولين الفاسدين.

من جانب آخر فإن إدانته التي لم تؤثر سابقاً على مسؤولياته في الوزارة يُضعف ثقة المواطنين في النظام القضائي والمؤسسات الحكومية، كما أن غياب الإجراءات الرادعة يعزز بيئة مواتية للفساد، حيث يدرك المسؤولون أن العقوبات ستكون غير فعالة أو حتى قابلة للتجاهل، وعلى المستوى السياسي، تعكس هذه القضية هشاشة الدولة الليبية وعدم قدرة القضاء على فرض قراراته على السلطة التنفيذية، كما تُظهر أن حكومة الدبيبة ليست جادة في مكافحة الفساد، بل إنها جزء من المشكلة، حيث يتورط كبار مسؤوليها في تجاوزات مالية ضخمة دون محاسبة حقيقية.

مع تصاعد الضغوط الدولية والمحلية من أجل إصلاحات سياسية وإدارية، يصبح من الصعب على حكومة الدبيبة الاستمرار في حماية المسؤولين الفاسدين إلى الأبد، ومع ذلك، طالما بقيت المؤسسات القضائية عاجزة عن تنفيذ أحكامها، فإن الفساد سيظل سمة رئيسية للحكم في ليبيا، وقضية موسى المقريف والعقوبات الهزيلة التي اتخذت ضده ليست حالة استثنائية، بل قاعدة في حكومة اعتادت على تطويع مؤسسات الدولة لخدمة مصالحها الخاصة، والتغيير الحقيقي لن يحدث إلا عندما يصبح القضاء مستقلاً، وعندما يتوقف استخدام النفوذ السياسي لحماية الفاسدين.

بقلم نضال الخضري

اقرأ المزيد